
يقول دولوز ناقلا عن هايدجر : ” بوسع الإنسان أن يفكر لأنه يمتلك إمكانية التفكير، و لكن هذه الإمكانية لا تضمن أننا قادرون على التفكير ” و معنى القدرة حسب دولوز هنا هي القوة التي تدفعنا و تحفزنا على فعل شيء، و قد بحث الفلاسفة عن هذه القوة التي لا تخور، فوجدوها في التأمل تارة و في الكتابة تارة أخرى، و يضيف دولوز أن السينما هي من بين الوسائل الحاملة للقوة ، لأنها – عبر الحركة و الصورة – تسترعي عقلنا و تهيج ملكة التفكير فينا ، و السينما التي لا توقظ الكائن المفكر فينا ليست بسينما، بل هي أقرب إلى السراب الذي يظهر فجأة و يختفي بنفس طريقة ظهوره دون يخلف أدنى أثر فينا .
إذا وضعنا نصب أعيننا علاقة الفلسفة بالسينما سنجد أنها تتخذ شكلا جدليا ، فالفلسفة يمكن أن تعبر عن ذاتها عن طريق السينما ، و ما أكثر الأفلام التي أنتجت من خلفية فلسفية، و اكتنفتها أفكار و رسائل تنطوي على أبعاد أنطولوجية غائرة و تخترقها مسارات متجهة الى الواقع رأسا، فهكذا وسيلة لا يسعها إلا أن تعمل على ضخ المعنى في شرايين الصورة السينمائية، و الناظر إليها يتمثل هذا المعنى على نحو تتحول فيه الصورة السينمائية الى صورة ذهنية، و بذلك فقط يحفر المعنى في صميمه، فلا يعود بمكنة أحد أن ينبث ما سبق حفره عن درك معنى، و يمكن القول أن ما تقدمه الفلسفة للسينما تقدمه السينما للفلسفة ، ففي الحالة الأولى تدس الفلسفة المعنى في الصورة المتحركة فتغدو هذه الأخيرة مستمرئة للمعنى الفلسفي، و في الحالة الثانية تعمل السينما على إيقاظ روح التفكير و إيقاد ذكوة النقد و الرؤية الفاحصة و المحللة .
1 . السينما بوصفها محاكاة
يمكن أن نميز في السينما بين نوعين : النوع الأول من السينما هو الذي يقترب كثيرا من الخيال و ينأى عن الواقع، كأفلام الخيال العلمي و الأفلام التي تصور الأساطير و الحكايات الغابرة في التاريخ إحياء لها، فتكون وظيفة هذا النوع من السينما وظيفة إمتاع، و الإمتاع لا يتحقق إلا بالإبداع المبتكر، و الإبداع إذا لم يحضر فيه جانب الخيال فهو يظل مبتدعا لا مبتكرا ، لأن الابتكار هو إبداع صورة على غير مثال سابق، و ليس المثال شيئا آخر غير الواقع المألوف، و ليس الابتكار شيئا آخر إلا الخيال ، و فيلم ” MATRIX ” يمثل هذا النوع من السينما. و بخلاف هذه السينما التي ترتكز على الخيال نجد بعض الإبداعات السينمائية تستند الى الواقع ، إذ هي تقوم بنسخه على شكل صورة متحركة فهي في نفس الوقت تحاكيه، أي تنتج عملا مماثلا لما هو واقع في الواقع، فلا تزيد عنه و لا تنقص، و ما تظهره السينما قد يكون موغلا في اليوتوبيا كفيلم ” Tomorrowland” و قد يكون مغرقا في الديستوبيا كفيلم ” Joker ” ، و الملاحظ من هذين النموذجين أن السينما التي ترمي وراء عملها الى مجاوزة الواقع عبر إظهاره في صورة بهية منظمة أو في صورة سوداوية فوضوية إنما هي التي تضرب عميقا في نفس المتلقي، و الأفلام التي ذكرناها خصوصا الأفلام الديستوبية الطافحة بالغموض و المليئة بالالتباس تلقى إقبالا كبيرا لدى الجمهور العريض، و السبب في ذلك نعزوه الى ” المجاوزة ” التي سنقف عندها ، فالإنسان ينزع دائما الى الغامض و القاتم ، و سرعان ما يضجر من الواضح و الساطع .
لكن المثير في هذه الفكرة أن ما يولده مقطع سينمائي يحاكي الواقع من انفعالات مصحوبة بحالة وجدانية جياشة بالسرور أو بالألم لا يولده الواقع نفسه ، فكيف للإنسان و الحالة هذه أن يتأثر بالنسخة و لا يحرك فيه الأصل شيئا ؟
2 . السينما بوصفها أيقونة
إن استنساخ الصورة السينمائية للواقع لا يعني أن هذه الصورة تشوه و تحرف ما هو واقع فعلا، و لو افترضنا أن السينما تراوغ الحقيقة و تضطلع بدور التشويه و التحريف، و تسعى الى مسخ أفكار المتلقي فإنها بذلك إنما تفتقد للفلسفة التي ترمي الى التنوير بدل التزوير ، الى تأسيس فهم جديد للواقع عبر الفعل العقلاني المتوجه نحو التغيير عوض تدليس نظرتنا الى الواقع عبر الانفعال اللاعقلاني المتوجه نحو دمغ فهمنا له و إثباته في المكان الذي لا يناسب أن يكون فيه ، و هذا ما قاد أفلاطون في ” الجمهورية ” الى قدح الفن بصفة عامة لأنه نسخة مشوهة عن نسخة مشوهة و لا يرقى الى مستوى المثل .
إن الصورة السينمائية التي لا تهدف إلا الى التزييف و التشويه تنخرم علاقتها بالفلسفة، فتتحول إلى ما يشبه ” سيمولاكر ” أي نسخة مشوهة للأصل ، أما الصورة السينمائية المصاحبة للفلسفة و الحاملة للمعنى المتواري خلف جدران الواقع و الكاشفة لتلافيفه و تعقيداته و تشابكاته و المعرية عن مكامنه و أغواره و جوفه إنما هي أشبه ما يكون بالأيقونة التي لا يفصلها عن الأصل إلا خيط هزيل ، تلك النسخة اللامعة و المتوهجة التي تكاد تزيح الأصل عن أصالته، لتحل محله .
3 . السينما بوصفها مجاوزة
و الحق أن بعض الأعمال السينمائية بما تحدثه من أثر لا يزول في شخصية المتلقي تترفع و تتسنم الى مرتبة أعلى من الواقع ، لذلك نصفها بأنها أعمال أيقونية، فكما أن المعرفة الحقيقية هي ما يبقى عندما ينتهي التعليم، فإن الأثر السينمائي الأيقوني هي ما يبقى بالفعل بعدما ينتهي المقطع السينمائي ، بمعنى أن الأثر الانفعالي الآني الذي يحدثه العمل السينمائي لا يستحسن فيه بقدر ما يستهجن، فلا معنى من أن يساورني الحزن و الإشفاق على شخصية في فيلم تتقمص دور المتسول المسكين دون أن يبقى هذا الانفعال بعد أن أنتهي من مشاهدة الفيلم، و لا ينحصر الأمر عند هذا الحد لأن بقاءه أيضا لا يشفع للفيلم أن يكون أيقونة ما لم يترجم الانفعال الى فعل، و إننا نقصد بالفعل هنا التغيير الذي يطال شخصية الشخص إن إضمارا بتغير الأفكار و العقليات و إن إظهارا بتغير الأفعال و السلوكيات .
في الغالب الواقع لا يقول كل شيء دائما، إنه أخرس بطبيعته، فالسينما إذ هي تحاكي هذا الواقع تؤمن بأن الأشخاص فيه يتجاوزون ذواتهم نحو طاقات لم تنظمهم ، و الأفعال تتجاوز ذاتها نحو أعمال أولية لم تشكلها ، و الأشياء تتجاوز ذاتها نحو قطع لن تشكلها، و بإيمانها هذا تنسحب السينما من دائرة المحاكاة الى دائرة المجاوزة، و لا يجب أن نفهم من ذلك أنها تعالي و تشامخ على الواقع، فالمجاوزة تعني اجتراحا للإمكانات التي لم يتحقق حدوثها واقعا و ظاهرا أو التي تحققت بالفعل لكن الواقع لم يحتملها و لم يتقبلها، إن الأمر أشبه بالشخص الذي زار الطبيب لكي يشخص مرضه ليخبره أن الداء الذي به ليس له دواء، فيعجز عن تقبل هذا الخبر و لا يقدر على تحمل ثقله ، إن العالم الأصلي – يقول دولوز – لا يظهر إلا عندما نثقل و نكثف و نطيل الخطوط غير المرئية التي تقطع الواقع و التي تفكك التصرفات و الأشياء ، إن السينما هي الطب الذي يشخص أمراض الواقع و يدفع أعطاب الحضارة لتطفو على السطح، لتظهر على شكل لم تظهر به في أصلها، شكل يتخذ من خصوبة العاطفة مرتعا ، و من ليونة الطبع منفذا ، و من رجاحة العقل مستقرا .
و انطلاقا من مفهوم المجاوزة نفهم أن السينما إنما تصنع واقعا لها ليس كالواقع الذي قلنا بأنه تحاكيه أو تقلده، فما نستقيه منها لا يمكن أن يقودنا الى الواقع كما هو أو كما يجب أن يكون، بل الى واقع آخر موجود بالقوة لكنه منعدم بالفعل، هو واقع يتسم بالتجاوز و التخطي المستمر، و هذا ما يدفع المتلقي إلى التعلق لدرجة الانسحاق التام و التماهي الكلي مع أطوار العمل السينمائي بشخصياته و بأحداثه و بأماكنه و بأزمنته و بمختلف تلافيفه و مطوياته، و ذلك لأن الفيلم الذي يكتفي بمحاكاة الواقع و اجتراره لا يمكن أن يضيف شيئا، لكن الفيلم الذي يعري ما كان مغطى و يفضح ما كان معطى و يثير ما لم يتجرأ أحد على إثارته و يزيل الستار على ما أسدل عليه ، و يخلع الحجاب عن ذلك اللامفكر فيه داخل المجتمع ، ذلك الذي يستكين هناك في الركن دون أن يتجاسر أحد على زعزعته ، ليس لأنه مقدس أو لأنه مدنس ، بل لأنه لم يطله التفكير بحكم أنه قناعة ترسخت و استحكمت بالعقل، إن المجاوزة الأيقونية هي ما يجعل من السينما حية .
و سنجترح هنا مثالا من السينما المصرية المعروفة بريادتها في السينما العربية بشكل عام، و ذلك لما أنتجته من أفلام تحاكي الواقع و تتجاوزه، و ننتقي منها فيلم ” البيضة و الحجر ” لما له من بعد فلسفي و واقعي واضح جعله ينتشر بشكل واسع ليس في الفترة التي أنتج فيها فقط ، بل حتى في أيامنا هذه جرى تداول مقاطع منه تداولا يثير الإعجاب حقا ، و سنفحص فيه الجوانب التي ذكرناها سابقا ، من محاكاة أيقونية و مجاوزة بالإمكانية .
4 . فيلم ” البيضة و الحجر “: محاكاة لواقع أستاذ الفلسفة أو مجاوزة له؟
لا يخفى علينا أن المجتمعات العربية استهجنت مسألة انتداب الفكر الفلسفي و انتشاره فيها أكثر مما استحسنته ، و معلوم أن المجتمع المصري كان أشد مقاومة لهذا الفكر لأسباب سياسية و اجتماعية حيث استشرت فيه مجموعة من التمثلات التي التصقت بالفلسفة و لازمت الوصوم أصحابها، و يتضح ذلك في الفيلم مع ” مستطاع ” أستاذ الفلسفة الذي قرر أن يسكن شقة في سطح عمارة في حي شعبي تحاك حولها الخرافات و تهاب فيها اللعنات، بالرغم من أنه كان يعرف بأمر هذه الشقة المشبوهة لأنها كانت مسكونة من قبل دجال يمارس السحر و الشعوذة، و في الليلة الأولى التي قضاها في هذه الشقة ظهرت له بعض الأمارات التي توحي بأن الشقة ليست بالعادية و الطبيعية ، حين بثق الصنبور دما ، الأمر الذي دب الخوف و الارتياع ، فهرع ليستكشف سبب هذا الحدث الغريب ليجد أن البواب هو الذي تقصد إخافته ، فهدده بأنه سيخبر سكان العمارة إذا ما عاود تصرفاته الطفولية .
الى هنا ، يظهر من الفيلم بأنه يريد أن يخلق صداما بين الخرافة ممثلة في أشخاص يؤمنون بها و الفلسفة ممثلة في أستاذ يعمل بها، بحيث سعى ” مستطاع ” الى إذاعة فكره التنويري تحت شعار ما ينفك عن تكراره : ” أنا إذا غلا علي شيء تركته فيكون أرخص ما يكون مهما غلا ” ، و تتبدى إرادة هذه الشخصية حينما طلبت منه سيدة أن يساعد ابنها الذي كان يعجز عن مضاجعة زوجته، فأبى ” مستطاع ” من منطلق أن طلبها إنما مقود بالخرافة ، و هو ما يتعارض معه بالمطلق و البت ، لكن مع إلحاح السيدة في طلبها، استجاب لها، و بالفعل ، التقى مع ابنها و أقنعه بكلمات تبدو في غاية البساطة العقلية و المنطقية و التي كانت محجوبة عليهم أن يمارس الجنس مع زوجته ، و بعد هذا الحدث ذاع صيت ” مستطاع ” لكن ليس كأستاذ فلسفة بل كدجال و شيخ يملك بركة ، و هنا نقطة التحول في الفيلم ، لينتقل الفيلم من المحاكاة الى المجاوزة ، فكيف ذلك ؟
كان مستطاع حاملا لمشعل الفلسفة في محيط لا يفقه فيها شيئا ، و حاول بشتى الطرق أن يزيل الخرافات من عقول الناس الذين كانوا محيطين به ، و أخال أن هذا الأمر سهل جدا ، لكن لسهولته فهو صعب ، خصوصا إذا ما اغتر المرء بما لديه من فكر و استغل الخرافة لخدمة مآربه الشخصية ، و هذا بالضبط ما فعله ” مستطاع ” ، فقد اغتر لذيوع صيته نتيجة نجاحه في إحقاق طلب السيدة ، و جنى من ذلك مالا وفيرا ، فأصبح تاجرا للوهم و الخرافة بدلا من أن يكون محاربا لها و مجافيا لتأثيرها ، و الحق أن ” مستطاع ” قد وقع فريسة للخرافة ، بالرغم من أنها لم تتملكه ، فعقله متحصن ضدها ، لكن نفسه الأمارة أملت عليه ما ينبغي أن يفعله ، إذ أنه كان يؤمن بأن الحاجة و الخصيصة تحول الناس الى عبيد و سجناء، و تعيشهم في عالم يضج بالأماني و ينضح بالأوهام ، و هذا ما يمنحهم بحق راحة و ترويحا و ارتياحا ، و إن التضخيم الذي طال شخصية ” مستطاع ” قد جعل الناس يحبونه و يتلهفون للقاء به .
إن الخرافة حسبما يرى باورخ اسبينزا تنشأ من الخوف، فالإنسان الذي تداهمه المشاكل من كل جهة و لا يلفي لها حلا ينتابه خوف شديد من مصيره إزاءها ، هذا الخوف يخلق عنده أملا في حلها ، و نحن نعلم يقينا مع نيتشه أن الأمل شر الشرور، إنه أشبه بالخيط الذي يجره القدر من جهة و نحن ممسكون به عسى أن ينفلت من جهة القدر، لكنه لا ينفلت ، و يرافقه ألم و توجع و عذاب لا ينقضي ، فتكون أكثر الحلول سذاجة حلولا حقيقية، فالذي أصابه مرض مزمن و لم يجد له دواء فمن الطبيعي أن يلجأ الى الخرافة كملاذ أخير عسى أن يجد فيه ما يشفي غليله ، هكذا إذن عالج فيلم ” البيضة و الحجر ” مسألة الخرافة و الحقيقة ، فالأولى تنتعش في بؤر المعاناة و الألم و المشقة و المكابدة، و هذا ما اتضح مع عدة شخصيات في الفيلم ، أبرزها ” قمر الغسالة ” التي كان الرجال ينفرون من الزواج منها، و حينما حكت ل ” مستطاع ” مشكلتها وجهها الى تغيير شخصيتها و التحدث بلباقة و حكمة و الرجال بعد ذلك سيتهافتون عليها ، و ذلك بعد أن لجأت الى الدجل و السحر . أما الثانية فتحضر حينما ينعدم الخوف و يقوض الأمل و تنتفي المعاناة .
لقد كنا ننتظر من ” مستطاع ” في إطار المحاكاة و كأستاذ للفلسفة أن يحارب الخرافة و ينافح ضد الدجل و الشعوذة ، لكننا تفاجئنا حينما تحول بنفسه الى دجال متأثرا بمفعول الخرافة نفسها ، فانقلبت شخصيته و حياته رأسا على عقب ، و ذلك في إطار المجاوزة .