
مرت السينما العربية شأنها شأن أي منتج ثقافي وفني بأطوار شهدت فيها تقدما ملحوظا على مستويات متعددة شملت الكتابة والتأليف والإخراج والدراسة والوسائل السيينوغرافية والنقد السينمائي الذي واكب حركة التطور الكبير في المشهد السينمائي العربي مع بعض التفاوتات في الأقطار العربية نتاجا لاعتبارات سياسية وفنية ومادية تتعلق بدرجات تدعيم القطاع السينمائي، فاستطاع المنتج السينمائي في بلدان عربية أن يمتد إلى أقطار أخرى بعيدة عنه، خاصة المنتج المصري (هوليود الشرق)، الذي شكل أيقونة السينما العربية وموضتها الفنية ، إذ اقتحمت البيوت العربية من الخليج إلى المغرب فشكلت ركيزة من ركائز المنتوج السينمائي المقدم، ثم السينما السورية التي كان حضورها قويا في المشهد السينمائي العربي منذ الثلاثينيات إلى الألفية مقدمة أعمالا كبيرة في تاريخ السينما خاصة على مستوى المسلسلات التلفزيونية الدرامية وما أنجته من الأفلام ذات المستوى الفني العالي رغم ضعفها الكمي في الألفية الأخيرة، والسينما اللبنانية التي شهدت بدايتها الفنية المتأخرة نسبيا في الخمسينيات مع تحسن نسبي في الأداء خلال الستينيات على المستوى الكمي والنوعي، بينما ظل حضور السينما الخليجية باهتا في المغرب العربي، بسبب ضعف الإنتاج بأقطار كالبحرين والسعودية وعمان بخلاف المنتج الإماراتي والقطري والكويتي الذي يعد الأقدم على مستوى التجربة والإنتاج.
أما السينما المغربية فقد انحصرت داخل بيتها فلم تبرح قواعده ، ويرجع ذلك إلى صعوبة اللهجة المغربية التي لا تستطيع بلدان عربية تلقيها ما جعل السينما المغربية تقبع في حدودها رغم بعض المحاولات لإخراجها من الدار، بينما كان تلقي المشاهد المغربي للسينما الوافدة من بلدان أخرى خاصة المصرية والسورية واللبنانية مألوفا ، لما راكمه المشاهد المغربي من استضمارات معجمية وأنساق نحوية للهجة المصرية بشكل خاص لما تمتلكه من تقاربات شديدة مع اللهجة السورية واللبنانية ، ما جعل أمر تلقيها مألوفا ومستساغا عند المتلقي المغربي، بل إنه كوّن مخزونا معجميا هائلا وأنساقا تعبيرية لا حصر لها من الأفلام والمسلسلات التي كانت تبث في الإذاعة المغربية منذ الثمانينيات من القرن الماضي إلى أن غزت السينما المدبلجة الوافدة من أمريكا اللاتينية ومن أوروبا البيت المغربي ، فقدمت مسلسلات برتغالية وأخرى برازيلية ومكسيكية ، وكان للمسلسلات المكسيكية تأثير كبير على الجمهور المغربي لقوة الحبكة واختراقها لأفق الانتظار الذي رسمته السينما العربية الوافدة ولما مارسته الدبلجة بالعامية المغربية في وقت شهدت فيه السينما المغربية وهنا إنتاجيا ، ما جعل المشاهد المغربي يفرغ مكبوته البصري في مثل هذه المنتجات التي لاقت نجاحا باهرا للدرجة التي شهدنا فيها رسم أبطالها على القمصان من أجل الترويج التجاري ( شخصية ألفريدو وكوادالوبي) وما كان للثنائي من صدى كبير في الوعي الجماهيري غير مجرى التوقع الذي رسمته المشاهدات السينمائية السابقة في أذهان الجماهير المغربية ، ثم جاءت موجة جديدة من موجات الدبلجة قدمت هذه المرة من تركيا ، فأرست السينما التركية قواعدها في المشهد التلفزي المغربي واستطاعت أن تشيد أنساقا جديدة في التفكير وتدخل أنماطا من الثقافة الجديدة المغايرة للمألوف في الحياة المغربية ولقيت هي الأخرى نجاحا كبيرا للدرجة التي عجت فيه المقاهي برواد تركوا مباريات كرة القدم لصالح المسلسل التركي بما يحمله من إثارة وتشويق عبر حبكة حكائية تنتظم خيوطها وتتعقد فيه اللحظات التنويرية صانعة آفاق انتظار جديدة ومغايرة لما أرسته الثقافة السينمائية السابقة ، فكانت كل موجة جديدة تطمس معالم سابقتها بشكل كلي فتعمل على بناء وعي سينمائي جديد وتشكيل أنساق مغايرة أو بشكل جزئي ينبني على أساس الامتصاصات التي تمارسها النصوص قبل تحولها إلى المشهدية السينمائية .
ولا يعني هذا أن السينما العربية وهي تقدم موادها بلهجات الوطن أنها أغفلت الفصحى التي شكلت جزءا كبيرا من الممارسة اللغوية للسينما العربية، فقد اعتنى الإخراج السينمائي بالسيناريوهات المكتوبة بالفصحى باعتبارها مشتركا قوميا ووسيلة تعليمية ترسخ الهوية وتثبت جذورها في البنيات الثقافية والاجتماعية للمنظومات البشرية العربية ، فحفلت السينما العربية بتجارب رائدة على مستوى الأفلام السينمائية مثل الرسالة وعمر المختار وفيلم ظهور الإسلام وشجرة الدر وفيلم النصر صلاح الدين ومسلسلات عديدة أسهمت في استنطاق الذاكرة التاريخية وعرض البطولات العربية مثل مسلسل صلاح الدين الأيوبي ومسلسل المماليك وعمر بن الخطاب أو التأريخ للقصص الأسطوري في الثقافة الجاهلية على نحو ما صنعت سلسلة الزير سالم في عرضها لملحمة البسوس ، وغيرها من المسلسلات التاريخية والتراثية التي سارت إلى جانب الرواية التاريخية في عرض حلقات التاريخ العربي ، مستدعية اللغة العربية الفصحى في أعلى مستوياتها التعبيرية كنسق حواري ينبني عليه سيناريو المشهد ، لتمكن المتلقي العربي بمعية الإيماءة والصورة والسينوغرافيا وما تستعين به من أدوات من تلقي أبنية لغوية زاخرة بمفردات تعبر عن البيئة العربية وتنقل تفاصيل الثقافة التي نشأت في كنفها ليأخذ المتلقي العربي في تشكيل قاموس فصيح مع بعض التفاوت في درجات التلقي بين العامة والخاصة ، كما ستسهم في تكوين هذا المتلقي نحويا وبلاغيا وتداوليا ، بحيث صار ملما بمقامات الكلام وعارفا بسياقات الإنجاز وما يحمل عليه القول من تعجب وتحقير وتعظيم وغير هذا من القوى الإنجازية التي يستلزمها التخاطب.
إن السينما العربية وهي تنطق فصحاها استطاعت أن تقدم إسهامها المحمود في جانب بعث الوجدان العربي وتحريكه بما كان من صنيع الأجداد زمن البطولات أو ململته زمن الخيبات والنكسات وفي نفس الآن تمكنت من ترسيخ الهوية اللغوية ونسج خيوط الفعل السينمائي الموحد خاصة عبر الإشراك العربي من شتى الأقطار في أفلام كبيرة ومسلسلات رصينة ، حيث تضافرت أدوار الممثل المصري والسوري واللبناني والمغربي والخليجي وغيرهم من الجنسيات العربية التي أثتت فضاء السينما العربية ومنحتها فسيفساءاتها الوضاءة ، ليلتقط المشاهد العربي جماليات تعبيرية فونيطيقية مختلفة باختلاف الجنسيات، منحت المشهد السينمائي العربي نكهة جميلة أفقدته إياه الدبلجة التي انحدرت بالأنساق التعبيرية إلى درجات الإسفاف بغض النظر عن طبيعة القيم المشوهة التي يتم الترويج لها وبثها عبر المشاهد ، فإني أكاد أجزم أن دعامة كبيرة من دعامات إقامة الفصحى وترسيخ هويتنا اللغوية تم إسقاطه عبر هذه المنتجات الدخيلة التي حظيت باهتمام العامة لما امتلكته من قدرة تأثيرية على المستوى اللغوي المتداول في الحياة العامة والمستوى التيماتي الذي خاطب العلاقات الإنسانية المتشكلة في أبعادها القيمية التي أرست معالمها ثقافة جديدة في عصر السرعة والتقنية الرقمية ، ما جعل الخطاب السينمائي الفصيح يغور غورة نجم إلى غير عودة ، بعدما تم تصنيع جمهور جديد مختلف لا علاقة له بتاتا بالتاريخ وأمجاد البطولة ولحظات الانتكاسة ولا دراية له بالتراث لأنه جمهور صنعته حداثة وهمية في ظل عالم رقمي معولم رسم له الطريق كي ينظر نحو الأمام دون أن يتمكن من مجاوزة موضع قدميه ، لتنجح الحداثة في إحداث قطيعة إبستمولوجية بين المتلقي العربي وهويته اللغوية المشتركة باعتبارها بؤرة النص الديني وسنام الثقافة العربية بكل تجلياتها في الأدب والفكر والفلسفة والعلم ، إذ إن شن الحرب عليها قد نجح من قبل أعدائها في طمس معالمها داخل السينما العربية ووأدها في مقبرة التاريخ لتغدو رميما في الأراشيف علها تنتظر يوما من سيبعثها من جديد لتصل المتلقي العربي بماضيه التليد ويستقرئ التاريخ من مشهدية الصورة وبداعة التمثيل مثلما استقرأه كثيرون من المثقفين من بطون الكتب والمصنفات.
إن السينما العربية لعبت دورها الحاسم في كشف الحدث التاريخي والديني والأسطوري ورصدت تفاصيل الأحداث معيدة الذاكرة إلى الماضي ورابطة إياها بتاريخ الحضارة العربية الإسلامية ، فأفلام كالرسالة تؤرخ لبداية الوحي وما أعقبه من أحداث وصراعات بين الكفر والتوحيد وعمر المختار وما رصده من بطولة ومقاومة لرجال أشاوس في مواجهة الاحتلال الإيطالي رغم حضور لغة الآخر إلا أن العربية الفصحى شكلت المحور الأكبر في الفيلم ومسلسلات كعمر بن الخطاب يؤرخ لتاريخ الخلافة في عصره وصلاح الدين وما صنعه هذا الفاتح المظفر من بطولات استرد فيها القلاع والمدن وبيت المقدس من الصليبيين ومسلسل علماء الإسلام وما قدمه من ثقافة وتنوير علمي عرض سير علمائنا كابن الهيثم والبيروني وجابر وغيرهم من كبار علماء الإسلام ، تخصص حلقة كاملة لكل عالم فتقدم إنجازاته الباهرة ليتعلم منها المتلقي ويتثقف بثقافة أهل العلم فيتخذ امثالهم قدوة يحتذي بها ، وغير هذا كثير مما زخرت به المنتجات السينمائية العربية الرائعة التي كانت ترمي إلى التهذيب والتثقيف وإخراج كل ما هو جوهري وكامن في النفس البشرية بعيدا عن الإسفاف والانحطاط الذي غدا المشهد السينمائي يروج له اليوم مما لم يكن معتادا من قبل ، حيث الترويج للقيم الهشة والمنحطة ، قيم الحياة وعدم احترام الآباء والإخوة الكبار وتمجيد المال على حساب الخلق ونشر الرذيلة بكل أطيافها مما هو سبيل لدمار المجتمعات وانحلال الأخلاق ، حتى صارت الكلمات النابية والفجة جزءا من اللغة السينمائية التي يحبذها المخرجون بعدما وجدوا ضالة جيل تنزع إلى هذا اللون من التخاطب الفج ، ما يدل على أن زمن السينما العربية الراقية قد ولى أدراجه وراح مع أذيال الريح ، ولا يعني هذا الكلام أنني أنتقص من قيمة السينما التي تعتمد العامية لهجة في التخاطب ، فهي جزء من الهوية اللغوية للشعوب العربية ولا بد أن المعجمية تتلاقح بين كل الأقطار مثلما تتلاقح الأنساق النحوية فقد حفلت السينما العربية بإنتاجات عظيمة استقت مادتها من أعمال روائية كبيرة كأعمال نجيب محفوظ ونجيب الكيلاني وحنا مينة وغيرهم ، أو اعتمدت أعمالا مترجمة كالمسلسل المغربي وجع التراب ، أو تلك التي اعتمدت على كتاب السيناريو فكانت على درجة من الإبداعية منحت المنتج قيمته الرفيعة، وإنما مقصدي إلى ضرورة إحياء وبعث الفصحى على عادة ما فعل الإحيائيون في شعرنا العربي بزعامة البارودي ، في عملية إعادة للتاريخ نفسه خاصة وأننا نعيش أزمة لغة تظهر للعيان بادية في الخطاب الإعلامي الذي لا يخلو من وهن تعبيري على ألسنة المستجوبين بغض النظر عن مستواهم الثقافي، وفي المؤسسات التعليمية إذ يظهر ضعف المتمدرسين في المستوى الكتابي والتعبيري الشفهي حيث تتبدى ركاكة اللغة وعدم القدرة على الاسترسال بسبب فقر الرصيد المعجمي وعدم استضمار الأنحاء التي تحتاج إلى طرق بيداغوجية خارج اسوار المدرسة تسهم في تشكيلها الأفلام الكرطونية التي فقدت نكهتها هي الأخرى واتجهت نحو العامي بدل الفصيح في بعض التجارب وتسهم في بنائها الأفلام التاريخية والدينية الناطقة بالفصحى ما يسهم إيجابا في تفتيق ملكة المستمع لغويا وحمله على التعبير مع مرور الوقت بكل طلاقة وأريحية.
ومن هذا المنظور التعليمي والتثقيفي على السينما العربية أن تعيد النظر في بنيتها الداخلية وتعمل على توجيه جمهورها وإعادة تشكيل وعيه من جديد رغم أن المؤثرات شديدة القوة ، غير أنها ملزمة بالبحث عن وسائل جديدة تستطيع أن تواجه تيار العالم الرقمي عبر السباحة فيه لا السباحة ضده لأنه تيار جارف أتي يحتاج إلى نوع من التبصر والروية لاستغلال عالمه في ترسيخ الهوية اللغوية عبر بث نماذج سينمائية في شاكلة فيديوهات تستخدم كل التقنيات الجمالية الجذابة القادرة على ممارسة فعل الإغراء في مختلف المواقع المتاحة ، لتهيئة المتلقي وإعداده لتقبل هذا اللون الذي صار غريبا في عالم رقمي مزدحم بالمغريات المرفهة لتتشكل سينما عربية ذات معمار لغوي متين يبني أسسه على دعامات اللغة العربية الفصيحة التي نأى عنها هذا الجيل الذي رسمت أمامه آفاق شيدت معالمها لغات الأجانب ورمت بالعربية إلى الحضيض بازدراء وتنقيص لا يصنعه إلا الجاهلون بأسرار العربية وجمالها وحسن بلاغتها ورونق بيانها الذي لا تستطيعه اللغات الأخرى .