تتسع الأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط لكل التجارب الفنية لأنها لم تكن في يوم من الأيام مجرد تعبير فني أو صوت غنائي جمالي عابر ، بل كانت وما تزال أداة وقاطرة حيوية لنقل القيم الانسانية في كل تجلياتها الاجتماعية، وتسعى دائما لتشكيل الوعي الجماعي في ظل تحولات سوسيو- ثقافية كبرى. وقد ساهمت التحولات العلمية التكنولوجية ، الثقافية ، السياسية والاقتصادية والبيئية في منطقة الأطلس المتوسط في إنتاج مسار حديث من الأغنية الأمازيغية المعاصرة، حيث يدمج بين الوظيفة التوثيقية والوظيفة الاحتجاجية للأغنية الأمازيغية ، ويُعبّر كذلك عن التهميش، والهجرة، والانكسارات القيمية، وكذلك على المقاومة الناعمة للسياسات المركزية تجاه الثقافة واللغة الأمازيغية.
وفي هذا السياق، تبرز تجربة الفنان عبد الوهاب الصفريوي كصوت غنائي متجذر في الوجدان الأطلسي، ومشبع بثقافة القرية النابضة ، وموجّه بمواقف نضالية ناعمة، تترجمها نصوصه الغنائية المحمّلة بالصور الشعرية المكثفة، والنبرة الحزينة، والتعبير الصادق عن معاناة الإنسان الأمازيغي في زمن فقدان التوازنات الاجتماعية، والانتماء القيمي، والهوية.
تتطلب مقاربة هذه الأغنية المعاصرة في الأطلس – عبر نموذج عبد الوهاب الصفريوي – قراءة متعددة الأبعاد، تقارب البنية الرمزية للنصوص، وتموقعها في سياق الدينامية الاجتماعية المتغيرة، وما يرتبط بها من هجرة قروية وتمزق في الانتماء الهوياتي، في ظل تحولات اقتصادية وبيئية وثقافية تضع الأغنية الأمازيغية في صلب النقاش حول “من نحن؟” و”إلى أين نمضي؟”.
• سيرة موجزة لعبد الوهاب الصفريوي:
عبد الوهاب الصفريوي هو أحد الأسماء البارزة في مجال الأغنية الأمازيغية المعاصرة في الأطلس المتوسط. وُلد بكشاتا وهاجر منها الى الواتا آيث يوسي صفرو بالأطلس المتوسط بالمغرب وحاليا يستقر بمدينة أزرو أغورا AGORA المبدعين والمبدعات الأمازيغ ، حيث ترعرع في بيئة ذات طابع ثقافي أمازيغي عريق، ماساهم بامتياز في تشكيل قاعدة متينة لهويته الفنية وثراء تجربته. بدأ بوكيان عبد الوهاب الصفريوي مسيرته الفنية في وقت مبكر من حياته، وكان متأثرًا بالأغاني التقليدية القديمة وهو المنهج الشعبي الذي سطره سلفه الذين أثروا في مسيرته مثل حمو أوليازيد ، أعشوش ،حساين بووميا ، موحى أولمودن إزر ، محمد رويشة ، و مصطفى العكري … لكنه سرعان ما أدرك أنه بحاجة إلى إعادة تأويل هذه الأنماط الفنية القديمة وإعادة صياغتها لتناسب تطلعاته والتحديات الجديدة التي يواجهها المغني الفنان والمجتمع الأمازيغي بالأطلس المتوسط .
على مدار سنوات وأنا أتابع من قريب هذه الطاقة الإبداعية الكامنة في الفنان عبد الوهاب الصفريوي ، وأنا الذي عايشته في مجاله الغنائي الماتع ، تقاسمنا حفلات غنائية التقنا فيها بحضور الفنان القيدوم عسو ، المرحوم علي حنين، حدو بوسعود ، لحسن أمشلف ، بوخرطة وحسن الشيكي … والملاحظ أن الفنان عبد الوهاب ساير بثبات وبموضوعية كل المعيقات و تمكن في صمت من تطوير أسلوبه الغنائي الخاص ، الذي يتسم بطبيعة الحال بالدمج بين الموسيقى والأداء والشعر الغنائي التقليدي والأدوات الموسيقية الحديثة، بالإضافة أغانيه، أصبح الصفريوي مرجعية لكثير من الفنانين الذين يسعون إلى تحقيق التوازن بين التقاليد والأصالة من جهة، و الابتكار والتجديد من جهة أخرى.
• تأطير سياقي للأغنية الأمازيغية المعاصرة في الأطلس
تطورًت الأغنية الأمازيغية بمنطقة الأطلس المتوسط منذ منتصف القرن العشرين، متأثرة بالتحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها المغرب، خاصة في مرحلة ما بعد الاستعمار. كانت هذه الأغنية في بداياتها مرتبطة بمحيطها القروي، تعبر عن الحياة الاجتماعية المحلية، من قيم التضامن، وعلاقة الإنسان بالأرض والطبيعة، ومع تزايد الهجرة الداخلية والخارجية، وصعود مظاهر التمدن والعولمة عرفت قفزة نوعية .
أصبحت الأغنية الأمازيغية المعاصرة منبارا ثقافيا أساسي للتعبير عن التحولات الاجتماعية، مثل ظاهرة الفقر والتهميش والهجرة والأمية ، كما أصبحت مشعل النضال و واجهة حرة للمطالبة بالاعتراف بالهوية الثقافية الأمازيغية، وعن طريقها تمت مقاومة محاولات الإقصاء الثقافي واللغوي الأمازيغي . وفي هذا الجانب ساهم عبد الوهاب بنص شعري غنائي يقول في مضمونه .
أَيَا مَازِيغِينو أَوَالنش إِكجم إِدُّوستُور أَيَامَازِيغِينو* أَيَامَازِيغِينو إِعذلَاس أُوكّلِّيذ أَنسَا أَيَامَازِيغِينو
أَيَامَازِيغِينوإِدَّا أُومغِيب إِسِّيدَّاالحَال أَيَامَازِيغِينو* أَيَامَازِيغِينو هَانّ أَيُور أَيثنِيذِحكمن أَيَامَازِيغِينو
أَيَامَازِيغِينو الثَّارِيخ الجذُوذ إِصحَا أَيَامَازِيغِينو * أَيَامَازِيغِينو كّسنَاس إِلعذُو لاَجبَال أَيَامَازِيغِينو
أيَامَازِيغِينو أِلِي عَارِي ثّدُّو كَّاسّكَار أَيَامَازِيغِينو* أَيَامَازِيغِينو إِسثِّييَّا الهنَا ذَالمُو أَيَامَازِيغِينو
بمعنى. أيها الامازيغي إن كلامك الأمازيغي اعترف به كلغة رسمية بالدستور المغربي، ويعود الفضل للملك في تسجيل ارتقائها وتثبيت مكانتها ، واخيرا ظهر الحق وزهق الباطل وانجلت غيوم الظلام بنور قمر عكس ضوئه في الجانب المظلم لهويتنا الامازيغية وبذلك تم إنصاف تاريخ أجدادك الصحيح الذين كانوا مقاومين أشداء حافظوا على الجبال وحرروها، و ما عليك الآن إلا أن تمشي وتسافر وتستكشف الغابات والسهول ومحيطك بكل حرية ،لأن الأمن مستتب في بلادك .
تميزت الأغاني الأمازيغية بتوظيف والجمع بين الآلات التقليدية مثل “الناقوس” و”البندير” والقصبة “ثغانيمث ” والآلات العصرية كالقيثارة والكمان والعود والبانجو والهجهوج… ،
ويعتبر عبد الوهاب الصفريوي اليوسي من الذين سعوا إلى تحديث الخطاب والمضمون والأداء الغنائي الأمازيغي في شكله الرمزي مع الحفاظ على جذوره الأصلية النابعة من القرية . ومن خلال تجربتي في التفاعل مع ميدان الغناء الأمازيغي بالأطلس المتوسط مشاركا ،ملاحظا ،محللا ،ناقدا وموجها أرى أن تنوع الموضوعات التي طرحتها الأغنية الأمازيغية تطورت كثيرا ولم تعد كما هو في السابق تقتصر على تيمة الغراميات بل نستنتج انها ارتقت وتمددت إلى معالجة ظواهر اجتماعية مختلفة ومعاصرة ، من حنين القرية والأرض، إلى قضايا الهوية الأمازيغية والبيئة والهجرة، والنضال السياسي والاجتماعي والثقافي والنقد والتوجيه . وهو ما يؤكده الموروث الغنائي الأمازيغي في كل مضمون خطاباته ، إن الأغنية الأمازيغية التقليدية والمعاصرة ظلتا دائمًا مرآة تعكس بؤس الواقع الاجتماعي وتطلعات الأفراد والجماعات الأمازيغية نحو غد أفضل.
من جهة أخرى، لعبت الدينامية الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها مناطق الأطلس المتوسط ولو بوتيرة بطيئة دورًا حاسمًا في إعادة تشكيل ملامح الأغنية الأمازيغية، و أصبحت تتجاوز وظيفتها الترفيهية المحدودة ، لتعبر عن قضايا كبرى مثل الوعي السياسي، وإشكالات الهوية، والتحولات القيمية داخل المجتمع الأمازيغي التقليدي.
فإن فهم الأغنية الأمازيغية المعاصرة في الأطلس المتوسط لا يمكن أن يتم خارج السياق العام للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عرفتها مناطق الأطلس المتوسط ، سواء من خلال النزوح القروي نحو المدن، أو من خلال الهجرة إلى الخارج، أو عبر التفاعل مع الحركات الثقافية والاجتماعية الأمازيغية التي سعت إلى إعادة الاعتبار للثقافة والهوية الأمازيغية داخل النسيج الهوياتي الوطني الشامل.
• التحولات الاجتماعية والثقافية والهوياتية من خلال أغاني عبد الوهاب الصفريوي
تُعد تجربة عبد الوهاب الصفريوي الغنائية مرآة دقيقة لكشف التحولات الاجتماعية والثقافية والهوياتية التي عرفها المجتمع الأمازيغي بالأطلس المتوسط في العقود الأخيرة. عبر محتوى نصوصه الغنائية الهادفة والماتعة ، استطاع الفنان عبد الوهاب الصفريوي أن يُجسد تحولات عميقة تمس القرية، والأسرة، وأنماط العيش، وعلاقة الفرد بالجماعة، و بالدولة والمحيط الخارجي وعلاقة الجماعة بالأرض الأم وخيراتها ويوصي في خطابه الفني على الحفاظ على الماء قائلا.
حَاولاَث خف وَامَان كُلشي زكَّامَان، حَاولاَث خف وَامَان كُلشِي زكَّامَان يابناذم كل أَينَّاذِيخلق سِيذِي ربِّي لاَّ يعِيش زكَّامَان .
دَّان قُّورّ إِغبُولاَ ،أُورذايساكا أُورَاعَا ، أَيِسكلاَ للِّي ثدَّا ثروَا ثدَّا لُوقث نُّون ،ثعايد أيانسا نُومَالُو لَّاك إِطَّاوظ أُوزَال ،أُورِكُّونِي غَاس ربِّي أَذَانخ ذِيغِيث سلخِير
مكثُوفِيذ أَمَان حمذ إِسِيذِي ربِّي نَّاثنِيشَان ،مشذَاثسِّيرِد مشذَاثسَّاذ الخِير أَيثلِّليذ ،شاخ أَربِّي أَنزَارأَتّسُون إِججِّين ذوَكاَل ، الحرّ نثَافُوكث أُورِينِّي أَكّذيٌوك أَثيِيرِي
عذل أَربِّي ثِينبَاضِين أُورَاس نغِيي إِيرِيفِي ،عذل أَربِّي لُوقث أَدَّاغُول إِكلمَامن ذوَاسِيف أَيَمثنَا أَيذَاذِيثّحيُون الرُّوح إِيثمِيزَار ،أُورذَاثّسَّالاَيذ أَثَاغُورَارث كَا نَّايغُوذَان .
من خلال هذا المتن الواعي ،الناهي ، الموجه ،والراجي ،يدق الفنان عبد الوهاب ناقوس الخطر على السلوكيات الجانحة للإنسان في تماديه باستنزاف خيرات أرضه بدون رقيب، وركز على الماء وعيا منه أنه العمود الفقري للحياة وبدونه تفقد الحياة طعمها .
وبهذا الوعي الناقد للفنان الأمازيغي عبد الوهاب الصفريوي الذي يذكرنا بأن الماء سرّ كوني وآلية رئيسية في استمرارية حياة جميع الكائنات الحية ومنها الإنسان ، فهو يشكل جزءاً كبيراً من تركيب جميع الأجسام، ويساهم كذلك في جميع العمليات الحيوية مثل الهضم والتمثيل الغذائي ونقل العناصر الغذائية ويساعد على تنظيم درجة حرارة الجسم من خلال التبخر والتعرق.وكما أشار الفنان عبد الوهاب في قصيدته على أن للماء الدور الحيوي في الحفاظ على التوازن البيئي ودعم النظم البيئية المختلفة، و المحافظة على التنوع البيولوجي,
في المجال الاجتماعي، تنتصر أغاني عبد الوهاب الصفريوي لمواضيع النزوح القروي، والتفكك الأسري الناتج عن الهجرة، وتحولات الأدوار الاجتماعية بين الأجيال و يظهر ذلك جليًا في أغانيه التي تصف الشوق للأهل والقرية، واستقرار النفس وراحة البال حيث يبدع عبد الوهاب في البحث والتجريب مقتبسا مضمون أغنيته” رَارغِيفِي البَاب” من أغنية قديمة كانت بمثابة رسالة مشفرة بين الأهالي والاستعمار الفرنسي ،حيث تنبه المقاومين بوجود المستعمر . مع أن الفنان عبد الوهاب لم يعش هذه القلاقل في عهد الاستعار،كان له الفضل من تحويل الأغنية في شكلها ومضمونها الى حالة السلم والحرية حيث نجح بامتياز في إعادة بنية وتناغم الأغنية كالتالي:
رَار غِيفِي البَاب أَوَا ونَّاذِيغرَان إِنيَاس * إِنيَاس أُورغِيخ أَوَا تّمحظِيِي ثَايرِي أُوسمُون
ما يفيد من معنى القصيدة أن الشاعر في عمق خولته وسط محرابه التعبدي ،لا يريد من أحد أن يزعجه ولهذا كان صارما في أمره القطع بصد الباب في وجه كل من ناداه لأنه في حالة طقسية روحية صوفية لا تبغي الازعاج .
ثقافيًا، يظهر عبد الوهاب الصفريوي كمدافع شرس عن الهوية الأمازيغية، من خلال اختيار مفاهيم من اللغة الأمازيغية العالمة كأداة للتعبير وتجسيدها تارة بحرف تيفناغ كهوية بصرية غرافيكية تؤكد مدى وعيه الثابت بهويته الأم ، ومن خلال توظيفه كذلك لرموز ثقافية جامعة للمتن الغنائي بالأطلس المتوسط في قصائده، مثل الأرض، الحصاد، النكوص، الأعراس، والذاكرة الجماعية. وقد حافظ في أغانيه على البنية الشعرية التقليدية الموزونة، مستلهمًا التراث الشفوي الأمازيغي.
تبرز أغاني عبد الوهاب الصفريوي على إيقاع صراع الهوية الأمازيغية مع قوى التمزيق والتذويب. فقد تناولت نصوصه معاناة الأمازيغ مع سياسات التهميش الثقافي واللغوي، كما عبرت عن قلق الهوية والانتماء في عالم سريع التحول. وفي بعض أغانيه، يحضر موضوع “الذاكرة المنفية”، حيث يتغنى عبد الوهاب الصفريوي بأمجاد القرية والأرض بلغة مفعمة بالحنين والأسى، ما يجعل أعماله مقاومة رمزية ضد النسيان والتهميش.
هكذا يمكن اعتبار تجربة عبد الوهاب الصفريوي شهادة فنية تبصم على مرحلة انتقالية حاسمة في التاريخ الاجتماعي والثقافي للأمازيغ بالأطلس المتوسط، حيث تتقاطع أغنيه مع التحولات الكبرى التي مست البنية القروية والهوية الثقافية تحت ضغط التحديث والعولمة.
• التحولات الموضوعاتية في الأغنية الأمازيغية المعاصرة: من القرية إلى قضايا الهوية
عرفت الأغنية الأمازيغية بالأطلس المتوسط تحولات عميقة على المستوى الموضوعاتي، مواكبة للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي مست المجتمع الأمازيغي بالاطلس المتوسط . فإذا كانت المواضيع التقليدية تتمحور حول القرية، والفلاحة، والحب العذري، وأفراح الأعراس، فإن الأغنية المعاصرة، كما تتجلى في تجربة عبد الوهاب الصفريوي، اتجهت إلى قضايا أكثر تعقيدًا تتعلق بالهوية، والهجرة، والاغتراب، والمقاومة الرمزية.
ولعل تأثير كل متدخلات الغربة والهجرة الى المدينة والهجرة من التقاليد القروية الى كل ماهو حضاري ، يزيد الضغط على الشاعر ويبحث عن كل متنفس يرى ويعيش فيه لحظة هدوء وسكينة النفس، والتخلص من سلطة المدينة كمختبر للظواهر الاجتماعية المركبة، ويرى الفنان عبد الوهاب في قصيدته أن الهروب إلى ماء الحياة قد يسعده وقتا معينا وقد يرفع عليه ضغط الحس المشترك ، واتجاه المجتمع الذي لا يصب في راحته بقدر ما يزيد من صعوبة المنهج وطريقة العيش وما أثرني وابهرني في الجرأة الواعية والناقدة للفنان عبد الوهاب هو أنه لايتبع ولا يفكر بالطريقة الجمعية لعامة المجتمع ،بل يقف دائما وسط المسار ويتمعن في الحياة وينتقدها ويتأمل في ما فات ويقومه ويستخلص أنه لا شيء ثابت وكل البنى تتغير وفقا لانساق معينة ولمشيئة الله .
أُورثُولِيي أٌورثُولِيي فرّغِي الكَاس أَوِيذ أَتٌّسُوخ إِسِّر وُول
أُورثُولِيي أٌورثُولِيي مَاخف ثَّاسِيخ أَنزوُوم ثنّايرَا ربِّي أَكّثِّيلِين
يسائل مضمون الأغنية لحظة ضغط اجتماعي، واقتصادي والعزلة والاندماج الصعب في اجواء الحياة بالمدينة ،بهكذا مضمون روحي طوطمي يثور الشاعر مسافرا في أعالي سموه على كل شيء لأن جميع الخطط والتصاميم تفككت وانهارت أمام الشاعر الذي فضل أن يرتشف كأس خمرة حارة قد تذيب جليد المرحلة الصعبة ، التي قد تؤدي به الى الانهيار التام ،و يسائل الشاعر في الأخير نفسه ، لماذا يحمل هذا الهم مادام الله هو الذي يسير شأنه .
في هذا السياق، أصبحت قضايا الهوية الثقافية الأمازيغية مركزية ، وعبر نصوص عبدالوهاب الصفريوي وآخرين، صرنا نسمع مضامين غنائية تطرح أسئلة الانتماء، واللغة، والاعتراف، والمقاومة ضد سياسات التذويب الثقافي. فتحولت الأغنية من مجرد حكي بسيط عن الحياة اليومية إلى خطاب فني محمّل بأبعاد أنثروبولوجية ، سوسيولوجية وسياسية.
إن هذا التحول الموضوعاتي يعكس بعمق انشغال الفنان الأمازيغي المعاصر بالذات الجماعية، ومحاولته الحفاظ على الذاكرة والهُوية في سياق تحديات التحديث التكنولوجي السريع والعولمة الجامعة . ومن ثم، أضحت الأغنية الأمازيغية ساحة مقاومة رمزية لتحقيق الذات والاستمرار في الزمن والمكان ، لتنقل وجدان مجتمع أمازيغي تسلطت عليه كل الرياح العتية ويعيش في مفترق طرق بين ماضٍ آفل ومستقبل صعب وغامض.
• عبد الوهاب الصفريوي: صوت معبر عن القلق الجماعي والتحولات الاجتماعية
يشكل عبد الوهاب الصفريوي أحد أبرز الأصوات الغنائية الأمازيغية في الأطلس المتوسط التي تمكنت من إعادة تشكيل الأغنية الأمازيغية في سياقها الاجتماعي الجديد والمتوتر ، حيث لم تعد الأغنية مجرد استمرارية لنموذج الرقص والغناء المجاني التقليدي، بل أصبحت هادفة ولها منهج في تصريف المنتوج الغنائي الامازيغي كمضمون ثقافي سمعي بصري وكأداة للتعبير عن قلق الهوية ووضعها التمزق اجتماعيا وثقافيا وتربويا واقتصاديا… ،الذي يعرفه الإنسان الأمازيغي بالأطلس المتوسط في زمن التهميش والتغيرات المتسارعة. فالفنان عبد الوهاب الصفريوي ، المنتمي إلى جيل ما بعد الاستقلال وقد يصنف من الجيل الثالث ، استوعب جيدًا أن الأغنية الأمازيغية لم تعد فقط للتطريب من أجل التطريب ، بل هي صارت بالذات منبرًا للبوح عن المسكوت عنه ولكسر الطابوهات وتفكيك الطقوس القديمة والطوطمية ، وهي كذلك فضاءً للتأريخ الذاتي والجمعي.
وتبرز نصوصه الغنائية كمرآة لواقع الأطلس المتوسط، التي تمزج بدقة بين الذاكرة الجماعية والواقع المركب والصعب. فالموضوعات التي يتناولها عبد الوهاب الصفريوي دائما ما تتقاطع مع ما يسميه بيير بورديو بـ”الحقل الثقافي المتوتر”، إذ يتحرك الفنان داخل فضاء اجتماعي ثقيل بالرموز والانكسارات. كما أن استعماله للغة الأمازيغية في شكلها العفوي ، يوحي بإصرار على تشبث هوياتي لغوي في وجه سياسات الاندماج القسري وفقا لمرجعيات خارجية .
أكثر من ذلك، تنفتح أغاني عبد الوهاب الصفريوي على البعد التأويلي السوسيولوجي، إذ يمكن قراءتها كمادة إثنوغرافية تعكس أنماط الحياة اليومية للأمازيغ، من الزواج إلى الحزن الجماعي، من احتفالات القرية إلى اغتراب المدينة، مما يجعل الأغنية سجلًا حيًّا لتحولات المجتمع القروي في الأطلس المتوسط .
• الهجرة كموضوع بنيوي في الأغنية الأمازيغية المعاصرة
1- الهجرة كظاهرة اجتماعية وثقافية
تُعتبر الهجرة أحد المواضيع البارزة التي تمثل واقعًا اجتماعيًا و ثقافيًا في الأغنية الأمازيغية المعاصرة. ينعكس في هذه الأغاني الصراع الداخلي بين التمسك بالهوية الثقافية في ظل الهجرة، و الاغتراب الثقافي الذي يعانيه الأفراد عند انتقالهم إلى المدن الكبرى أو الدول الأوروبية. في هذا السياق، تظهر الأغنية الأمازيغية كأداة لحفظ الذاكرة الجماعية وتوثيق الروابط العاطفية مع الأرض و القرية، في مواجهة الانعزالية و التهميش الذي قد يواجهه المهاجرون في بيئاتهم الجديدة.
2 – الهجرة نحو المدن/أوروبا: الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية
ترتبط الهجرة الأمازيغية إلى المدن الكبرى و أوروبا بعدد من الدوافع الاقتصادية والاجتماعية مثل البحث عن فرص العمل، و الظروف الاقتصادية الصعبة في المناطق الريفية. لكن الأغنية الأمازيغية لا تقتصر فقط على تصوير الهجرة كظاهرة اقتصادية، بل تُبرز أيضًا التوترات الثقافية التي يعاني منها المهاجرون، حيث يواجهون تحديات في التكيف الثقافي وفي الحفاظ على هويتهم وسط مجتمع غير مألوف. ومن خلال الأغاني، يُعبر المهاجرون عن الحنين إلى الديار و الأهل و الأرض، مما يُبرز تعبيرات عاطفية صادقة عن الفقدان والاغتراب.
3- الهجرة كرمزية للمقاومة الثقافية
الهجرة في الأغنية الأمازيغية لعبد الوهاب الصفريوي لا تمثل فقط حركة جغرافية، بل هي رمزية للمقاومة الثقافية في وجه العولمة و التأثيرات الدخيلة ،تعكس الصراع المستمر بين التمسك بالهوية الأمازيغية و التحديات الثقافية التي يواجهها الأفراد والجماعات في المدن وبلدان الهجرة، مثل التنكر للهوية أو الاندماج القسري في ثقافات أخرى. ومن خلال اللغة الأمازيغية، يُعبّر الفنان عن رغبته في المقاومة و الحفاظ على تراثه الثقافي.
4- الحنين إلى الأرض والقرية: تأثيرات الهجرة على الذاكرة الجماعية
الهجرة لا تمس فقط الفرد كفنان ، بل تؤثر أيضًا في ذاكرته الجماعية وفي مجتمعه الأمازيغي. وفي المنجز الابداعي للأغاني الأمازيغية، تظهر القرية و الأرض بقوة كرمزين للجذور و الهوية. غالبًا ما تُعبّر الأغاني عن الحنين إلى القرية الأصلية والعيش في الطبيعة، وتُسلط الضوء على التباين بين البساطة والسكينة في الريف و الضغوط الاجتماعية والاقتصادية في المدن الكبرى أو في الخارج. من خلال الرموز و الصور البصرية، يُستحضر صورة الأرض الأم التي تظل متمثلة في الذاكرة، وتحمل طابعًا عاطفيًا و رمزيًا قويًا في سياق الهجرة.
يُظهر تحليل الهجرة كموضوع بنيوي في الأغنية الأمازيغية المعاصرة أن الأغنية ليست فقط وسيلة للتعبير عن معاناة المهاجرين أو الحنين إلى الأرض، بل هي أداة للتوثيق و التعبير الثقافي عن الهوية الأمازيغية في السياقات المعاصرة. في هذا السياق، تُعتبر الأغنية وسيلة للمقاومة الثقافية التي تُحارب الاندماج القسري و التأثيرات العولمية، بينما تقدم أيضًا تصورًا عن تأثيرات الهجرة على الذاكرة الجماعية للأفراد والجماعات.
• التحليل السوسيولوجي للأغنية الأمازيغية من خلال قضايا الهجرة، الديناميات الاجتماعية، والهوية الثقافية
الأغنية الأمازيغية، باعتبارها أحد أشكال التعبير الثقافي المميزة، يجعل منها الفنان عبد الوهاب الصفريوي آلية لاسترجاع دورها المهم في التفاعل مع التحولات الاجتماعية والسياسية التي تشهدها المجتمعات الأمازيغية بشمال إفريقيا. من خلال قضايا مثل الهجرة، الديناميات الاجتماعية، والهوية الثقافية، يمكن للأغنية الأمازيغية أن تقدم تحليلات معقدة حول التحديات التي يواجهها المجتمع الأمازيغي. فيما يلي تحليل سوسيولوجي لهذه القضايا:
1- الهجرة (النزوح القروي، الهجرة نحو المدن/أوروبا)
تعد الهجرة، سواء كانت داخلية نحو المدن المغربية الكبرى أو إلى أوروبا، أحد المواضيع الرئيسية التي تناولتها الأغنية الأمازيغيةعند عبد الوهاب الصفريوي. الهجرة القروية باتت ظاهرة واسعة النطاق، حيث يهاجر الكثير من المبدعين الأمازيغ من المناطق الجبلية والريفية إلى المدن الكبرى بحثًا عن فرص اقتصادية أفضل كما هو حال الفنان عبد الوهاب، مما يؤدي إلى تأثيرات ثقافية واجتماعية عميقة.
الأغنية الأمازيغية في مضمون عبد الوهاب الصفريوي تعكس هذه التحولات من خلال تصوير تجربة الهجرة بمختلف جوانبها:
– الفقر والبطالة في الأرياف هي المحفز الرئيسي للهجرة، وقد تناولت أغانيه هذه الظاهرة بتسليط الضوء على العزلة الاجتماعية التي يشعر بها المهاجرون في المدن.
– الشوق والحنين إلى الرأس: غالبًا ما تعبر أغاني عبد الوهاب عن الحنين إلى الأرض الأصلية كشاتة، حيث يتم تصوير مسقط الرأس كملاذ للهوية الثقافية والتراث الأمازيغي.
– الاغتراب الثقافي: تعبر أغاني الفنان الأمازيغ عبد الوهاب عن الصراع الداخلي المشحون بين التمسك بالثقافة والهوية الأمازيغية، والانفتاح على ثقافات وظواهر المدن التي قد تشكل تهديدًا لهويته الثقافية الاصلية.
• الديناميات الاجتماعية (الفقر، التهميش، التعليم، الدولة)
تظل قضايا الفقر والتهميش جزءًا لا يتجزأ من الموضوعات التي تتناولها الأغنية الأمازيغية. خاصة في مناطق الأطلس والريف والجنوب، حيث تستمر المجتمعات الأمازيغية في مواجهة تحديات متعددة تتعلق بالوضع الاقتصادي والاجتماعي:
• الفقر: كثير من الأغاني الأمازيغية تتحدث عن معاناة الأسر الفقيرة في المناطق الريفية، وكيف أن الحياة اليومية تصبح صراعًا من أجل البقاء. تصوير الفقر في الأغنية الأمازيغية يُعتبر مؤشرًا على الفجوات الاقتصادية بين الريف والمدن، حيث يواجه الفلاحون والمزارعون الأمازيغ صعوبات جمة تتعلق بالزراعة وظروف العمل.
• التهميش الاجتماعي والسياسي: تعبر الأغاني عن الاستبعاد الاجتماعي الذي يعاني منه الأمازيغ في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، سواء في التعليم أو العمل. كثير من الأغاني تسلط الضوء على الاختلالات في نظام التعليم في المناطق الأمازيغية، وتصور نقص الفرص التعليمية كعائق رئيسي في تقدم الأفراد.
2- الهوية الثقافية (التنكر، الصراع، المقاومة الرمزية)
موضوع الهوية الثقافية يمثل حجر الزاوية في العديد من الأغاني الأمازيغية لعبد الوهاب الصفريوي، حيث تتفاعل كثيرا أغنيته مع الصراع الثقافي القائم ، الذي يواجهه الأمازيغ في ظل التغيرات العولمية والنزاعات الاجتماعية.
• التنكر للهوية الأمازيغية: في فترات معينة، تتعرض الهوية الأمازيغية لخطر الذوبان في التيارات الثقافية الدخيلة التي تريد أن تسود . وهو ما تعبر عنه الأغنية الأمازيغية غالبًا بالرفض للتنكر للهوية ، ويدعو من خلالها الفنان عبد الوهاب الصفريوي إلى التمسك باللغة والثقافة الأمازيغية كرمز للمقاومة الثقافية والاجتماعية .
• الصراع على الهوية: تحكي أغاني عبد الوهاب عن الصراع الحاد بين الأجيال، حيث يعتبر الجيل الأكبر في السن أن التمسك بالهوية الأمازيغية هو السبيل الوحيد للبقاءوهو مانقرب كملاحظة لكل فنانة وفنان أمازيغي يسوق للأغنية الأمازيغية بلباس غير لباسه الاصلي الذي يزيد من تناغم بين الأغنية وهويتها البصرية ، بينما يرى الجيل الأصغر أن التكيف مع الثقافات الأخرى قد يكون هو الحل للاندماج الاجتماعي.
• المقاومة الرمزية: من خلال مضمون الكلمات والموسيقى المتوازنة ، تقدم الأغاني الأمازيغية مقاومة ثقافية ورمزية ضد محاولات كثيفة للهيمنة الثقافية. بهذه الطريقة ، نرى أن الأغنية الأمازيغية من خلال المنجز الغنائي لعبد الوهاب الصفريوي ، تصبح شهادة على استمرارية وامتداد الهوية الأمازيغية في الزمان والكون ، رغم كل التحديات الشاقة التي تواجهها.
• الهوية بين الحنين والانتماء في أشعار عبد الوهاب الصفريوي
تعد الأغنية الأمازيغية بالنسبة للفنان عبد الوهاب الصفريوي وسيلةً فنيةً قوية للتعبير عن الهوية الثقافية، الحنين إلى الأرض، الانتماء للجذور، والذاكرة الجماعية التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من ثقافة المجتمع الأمازيغي. ومن خلال تحليل بعض الأغاني، يمكننا فهم دور الأغنية في التعبير عن هذه الهوية، وكذلك كيف يتم تمثيل القرية والأرض كرموز من خلال سيمياء النصوص.
1- اللغة الأمازيغية:
عبد الوهاب الصفريوي يستخدم اللغة الأمازيغية كأداة تمثيلية تمس الذاكرة الوجدانية الجمعية وتعبر عن الروح الجماعية للأمازيغ. هنا، اللغة تصبح عند الفنان بمثابة أداة للمقاومة الثقافية ضد محاولات طمس الهوية، إذ تُستخدم لإحياء التراث الأمازيغي ولنقل القيم الثقافية للأجيال الجديدة.
في أغانيه، تحضر اللغة الأمازيغية بشكل قوي، حيث تشكل اللسان الفاعل في النص وتصبح أداة تعبير عن التمسك بالهوية الأمازيغية في وجه التحديات العصرية.
2 – حضور الذاكرة الجماعية والقرية والأرض:
• القرية والأرض كرموز سيميائية:
في أغاني عبد الوهاب ، تعتبر القرية والأرض رمزين أساسيين في تشكيل الهوية والثقافة الأمازيغية . ويُنظر إليهما على أنهما مكونان مقدسان يحملان ويحافظان على الذاكرة الجماعية التي تنتقل من جيل إلى جيل عبر الأغاني.و الذاكرة الجماعية تظهر في مضمون كلمات الأغاني التي تتحدث عن الحياة بالبادية الأطلسية ، حيث يتم تصوير الطبيعة، المنازل التقليدية، الأرض الزراعية، الحقول، كمفردات رمزية تحمل دلالات عميقة تتعلق بالهوية الأمازيغية .
• القرية كموطن للهوية الأمازيغية:
الذاكرة الجماعية المرتبطة بالقرية أصبحت مساحة رمزية لاحتضان الهوية الأمازيغية بالأطلس المتوسط وهذا ما تشبع به الفنان عبد الوهاب في مسيرته الفنية ، وهي بذلك لم تعد مجرد مكان جغرافي، بل هي حاضنة ثقافية وروحية تُحافظ على القيم الأمازيغية.
تُصور أغاني عبد الوهاب القرية كمكان وكفضاء جغرافي لامتناهي في تمثلاته ما يوفر له كل الاستقرار والطمأنينة ويحمل الروح والذاكرة الجماعية للهوية الأمازيغية في مواجهة التحديات.
3. دور اللغة الأمازيغية كأداة مقاومة:
• اللغة كأداة مقاومة ثقافية:
في العديد من أغانيه، يبرز عبد الوهاب الصفريوي دور اللغة الأمازيغية كأداة مقاومة ضد الإقصاء والتهميش ومحاولات الهيمنة الثقافية، سواء كانت من المشرق أو من الغرب. ومن خلال تمسكه باستخدام اللغة الأمازيغية وحروفها تيفناغ في أغانيه عامة ، يعمل عبد الوهاب الصفريوي على إعادة تأكيد وتثبيت المسار الفني للهوية الأمازيغية و حمايتها من التلاشي في الثقافات الأخرى العابرة لكل للقارات .
اللغة الأمازيغية لديه تمثل الوسيلة الوحيدة للحفاظ على التراث والذاكرة الأمازيغية في عصر العولمة والتكنولوجيا الحديثة والتمدن السريع . على الرغم من كل هذه التحديات الاجتماعية والسياسية التي تواجه الأمازيغ ولغتم وثقافتهم في المجتمعات الحديثة، تظل اللغة الأمازيغية في الفن الموسيقي هي العنصر الأهم والأساسي في المقاومة الرمزية ضد الإبعاد الاجتماعي والثقافي والهوياتية.
• التمسك باللغة كأداة للبقاء:
من خلال الأغاني الأمازيغية بالاطلس المتوسط ، يعبر عبد الوهاب الصفريوي عن أن اللغة الأمازيغية ليست فقط وسيلة للتواصل اليومي ، بل هي أداة للبقاء والاستمرار الثقافي والوجود الاجتماعي. تمثل اللغة في الأغنية الأمازيغية الصوت الذي يروي التاريخ و يحفظ التراث، فهي ترسخ الهوية الأمازيغية وتقويها في مواجهة محاولات الإقصاء.
• الخلاصة التركيبية :
أغاني وأشعار عبد الوهاب الصفريوي تقدم لنا كوربوسا ونموذجًا فنيًا متكاملاً من خلال الحنين إلى الأرض والتشبث بها وبقيمها الانسانية ، القرية و الذاكرة الجماعية المحفوظة في أشعاره واغنيه ، حيث تبرز اللغة الأمازيغية كأداة مهمة للتواصل واختزال الكون في رموز و المقاومة المستمرة ضد التحديات التي تواجه الهوية الأمازيغية في العصر الحديث.
يظهر عبد الوهاب الصفريوي في مضامينه الفنية كيف أن الأغنية الأمازيغية لا تشكل مجرد وسيلة للتسلية، بل هي أداة قوية للتعبير عن الهوية وحمايتها، حيث يتم استخدام اللغة كرمز للمقاومة ووسيلة لاسترجاع الذاكرة الثقافية والاعتزاز بالجذور الأمازيغية.
• تكثيف دلالي للأغنية الأمازيغية كمرآة اجتماعية
تُعد الأغنية الأمازيغية أحد أهم الأدوات الثقافية التي تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي بالأطلس المتوسط والمغرب عامة ، حيث أنها تسجل كل اللحظات الهامة العابرة منها والممتدة منها في تاريخ المجتمعات الأمازيغية. ومن خلال أشعار عبد الوهاب الصفريوي، يمكننا أن نرى ونستكشف كيف أصبحت الأغنية الأمازيغية بالأطلس المتوسط مرآة اجتماعية تعكس كل الظواهر الاجتماعية و تكشف عن التحولات الثقافية، الاجتماعية و السياسية التي تواجهها هذه المجتمعات العميقة . وتعكس كذلك أغاني عبد الوهاب الصفريوي بشكل واضح الصراعات الداخلية المرتبطة ب الهوية، الهجرة، الديناميات الاجتماعية مثل الفقر، التهميش ،الطلاق ،عدم التمدرس والهشاشة . كما تقدم تجسيدًا عقلانيا للمقاومة الثقافية التي تؤرخ للتمسك باللغة الأمازيغية كأداة للحفاظ على الهوية الثقافية في وجه التحولات العصرية التي تشهدها المجتمعات الأمازيغية.
من خلال هذه الأغاني، نلاحظ كيف أن عبد الوهاب الصفريوي لا يقتصر على تقديم صور عن المعاناة، بل أيضًا يقدم مواقف المقاومة و التمسك بالقيم الأمازيغية كوسيلة لاستعادة الكرامة والهوية. وفي هذا السياق، تصبح الأغنية شعارا حيا ومرجعا روحيا للمجتمع الأمازيغي، لا تعكس فقط حالته ووضعيته الحالية، بل تكشف عن رؤى المستقبل وما قد تحمله من تحديات وفرص.
• الأفق المستقبلي للأغنية الأمازيغية في ظل العولمة والرقمنة
في عصر العولمة و الرقمنة، تواجه الأغنية الأمازيغية تحديات كبيرة في ظل انتشار الأنماط الموسيقية العالمية وتدفق المحتوى الثقافي الشرقي والغربي.بدون استئذان ومع ذلك، يفتح هذا العصر أيضًا آفاقًا جديدة لهذه الأغاني من خلال وسائل التكنولوجيا و الرقمنة، التي تتيح انتشارًا أوسع وتسويقا أفضل للأغاني الأمازيغية بين جمهور أوسع، ليس فقط في المغرب و الجزائر، بل أيضًا على مستوى العالم.
• الرقمنة توفر فرصًا هائلة لتوثيق وحفظ الأغاني الأمازيغية في أشكال متعددة مثل الفيديوهات الموسيقية، التسجيلات الصوتية، و المنصات الرقمية، مما يساهم في زيادة الوصول إلى جمهور أكبر.
• من ناحية أخرى، قد يؤدي الانفتاح على الثقافة العالمية إلى صعوبة الحفاظ على الهوية الأمازيغية في بعض السياقات، إذ قد تواجه الأغنية الأمازيغية منافسة قوية من الأنماط الموسيقية الحديثة التي تهيمن على الساحة الثقافية.
على الرغم من هذه التحديات، يُمكن أن تشهد الأغنية الأمازيغية مستقبلًا مشرقًا من خلال الابتكار الفني والتجريب ، حيث يمكن للفنانين مثل عبد الوهاب الصفريوي أن يتكيفوا مع هذه التغيرات و يستفيدوا من التقدم التكنولوجي لصياغة أغانٍ تواكب العصر مع الحفاظ على الجوهر الثقافي الأصيل. ويمكن للأغنية الأمازيغية أن تصبح جسرًا بين الأجيال المختلفة وبين الثقافات العالمية، مع المحافظة على خصوصيتها كأداة للتعبير عن الهوية و المقاومة الثقافية.
المراجع:
1. Ahmed Boukous, Langue et culture amazighes, Editions Royal Institute of Amazigh Culture (IRCAM), Rabat, 2013, p. 72.
2.Pierre Bourdieu, Langage et pouvoir symbolique, Editions du Seuil, Paris, 2001, p. 189.
3.Jean Lambert, La chanson berbère du Maroc: poésie, musique et société, Editions Maisonneuve & Larose, Paris, 1994, p. 214.
.4Pierre Bourdieu, Les règles de l’art. Genèse et structure du champ littéraire, Paris, Seuil, 1992, p. 88.