لا اتمكن الا من الافصاح عن شعور اكبته غالبا، ليس لانه حلل اخر نص كتبته لكن لانه تناوله بمقدرة واعية ،كاشفا عن شفراته، ومسلطا الضوء على اشد الفقرات بساطة وغموضا..فالف تحية للدكتور عادل جودة. ارفع له قبعتي..ك.ح.س)
( خطوات الى المدرسة )
ستواجه صخب الطلاب واهمالهم
وثرثرة الزميلات
ظهرت بجبة وحجاب سوداوين وسجل
في الشارع الساكن
حيث يشتغل الكساد
غادروا محالهم لينظروها
سائقو العجلات تلتف رقابهم اليها
ظهرت تستقطب كشجار عنيف يندلع فجأة
امها ودعتها بحرارة فهو يوم استلام المرتب..
واثقة وهادئة مرت
كزهرة تنبثق من ارضية غرفتك فجأة في جمود الليل
كنهر صغير فرح بالشروق
تحصّنت عن غرائزهم بمظهرها
لكنهم ذئاب منفردة
يفتكهم جوع متراكم
في العشرين وعيناها من الحزن مدينة منكوبة
هل تفكر باقتران تأخر
او كشفت خيانة فاتكة
هل تحاول ابعاد شبح تقدم العمر
او صحت من حلم مرعب
هل تذكرت غدرا لا تستحقه قابل وفاءها
او انها فقدت للابد اخا وفيا
او تذكرت قبر ابيها
لا احد يعلم من اين اتى كل هذا الحزن الذي لا تطيقه
المعلمة الصغيرة غارقة عنهم بعالمها الغامض.))
( قراءة نقدية وأدبية متأملة في نص “خطوات إلى المدرسة” للشاعر كاظم حسن سعيد، تسلط الضوء على جماليات النص وأبعاده الإنسانية المؤلمة.
حين تمشي “المدينة المنكوبة” على قدمين: قراءة في نص (خطوات إلى المدرسة)
بقلم: د.عادل جوده /العراق/ كركوك
في نصه المائز “خطوات إلى المدرسة”، لا يكتب الشاعر كاظم حسن سعيد قصيدة عابرة عن معلمة تسير في الشارع، بل يرسم لوحة سينمائية شديدة الكثافة، مكتظة بالتناقضات الصارخة بين (النقاء والتدنيس)، وبين (الصخب والسكينة)، وبين (الجسد والروح). إننا أمام مشهدية درامية تبدأ من الرصيف وتنتهي في أعماق النفس البشرية الجريحة.
استهلال: الانبثاق المفاجئ للضوء
يبدأ النص بتمهيد للبيئة التي ستقتحمها هذه الأنثى/الرمز. بيئة مدرسية تضج بـ “صخب الطلاب واهمالهم” و”ثرثرة الزميلات”. إنه عالم ضجيج خالٍ من المعنى، عالم اعتيادي ومبتذل. ولكن، فجأة، تتغير العدسة لتلتقط لحظة “الظهور”.
يستخدم الشاعر تشبيهاً صادماً ومبتكراً جداً لوصف لحظة ظهورها في الشارع: “ظهرت تستقطب كشجار عنيف يندلع فجأة”. هذا التشبيه يشي بأن جمالها أو حضورها لم يكن عادياً، بل كان حدثاً “جَلَلاً” كسر رتابة “الشارع الساكن”. إنها ليست عنيفة، بل إن أثرها على المحيطين هو الذي كان بعنف الشجار؛ لأنها حركت الراكد، واستفزت “الكساد”.
جدلية الرداء والذئاب
تظهر المعلمة متدثرة بالسواد (جبة وحجاب)، والسواد هنا ليس مجرد لون، بل هو “تحصين”. يقول الشاعر: “تحصّنت عن غرائزهم بمظهرها”. هي تحاول أن تختفي داخل ثيابها، أن تُلغي جسدها لتحمي روحها. ومع ذلك، يفشل هذا التحصين أمام “الجوع المتراكم” للشارع.
يبرع الشاعر في وصف نظرات الرجال (السائقين، الباعة)، واصفاً إياهم بـ “ذئاب منفردة”. هذا الوصف يحيلنا إلى حالة من التربص والوحشة. هؤلاء ليسوا مجرد معجبين، بل هم “جوعى” يفتك بهم الحرمان، فتتحول المعلمة في نظرهم من “مربية أجيال” إلى “فريسة”. المفارقة المؤلمة هنا هي أن “أمها ودعتها بحرارة” ليس خوفاً عليها من الذئاب، بل “لأنه يوم استلام المرتب”. هذه اللقطة الواقعية تزيد من عزلة الفتاة؛ فالمجتمع يريد منها جسدها (الذئاب)، والعائلة تريد منها وظيفتها (المال)، بينما هي تسير وحيدة بقلبها المحطم.
الزهرة التي تنبت في الأسمنت
في واحد من أجمل مقاطع النص وأكثرها شعرية، يصف الشاعر مرورها قائلاً:
“كزهرة تنبثق من ارضية غرفتك فجأة في جمود الليل”
“كنهر صغير فرح بالشروق”
هنا ينتقل النص من الواقعية الفجة إلى “الواقعية السحرية”. هي ليست مجرد امرأة، هي “نهر” و”زهرة”. هذا التضاد بين (جمود الليل/أرضية الغرفة) وبين (الزهرة/النهر) يوضح كم هي غريبة عن هذا العالم. هي كائن نوراني يسير في “مدينة ظلام”. هي “فرحة بالشروق” رغم الحزن الذي يسكنها، وكأنها تقاوم الموت بالحياة، وتقاوم القبح بالجمال الصامت.
عيناها.. المدينة المنكوبة
يصل النص إلى ذروته العاطفية والمأساوية حين يغوص الشاعر في عينيها. يترك الشارع والذئاب ليتأمل الوجه:
“في العشرين وعيناها من الحزن مدينة منكوبة”.
يا له من تعبير موجع! كيف لفتاة في العشرين، في ربيع العمر، أن تحمل في عينيها دمار “مدينة كاملة”؟ كلمة “منكوبة” تحيلنا إلى الزلازل، الحروب، والدمار الشامل. عيناها ليست حزينة فقط، بل مدمرة.
وهنا يفتح الشاعر باب التأويلات المشرعة على الوجع الإنساني، طارحاً أسئلة لا تنتظر إجابة، بل تعمق الجرح:
•هل هو تأخر الزواج (اقتران تأخر) في مجتمع لا يرحم؟
•هل هي خيانة فاتكة كسرت قلبها الغض؟
•هل هو شبح العنوسة (تقدم العمر) الذي يطارد الفتيات ككابوس؟
* أم هو الموت؟ (فقدان أخ، أو ذكرى قبر أبيها).
هذه الاحتمالات المتعددة تجعل من المعلمة رمزاً لكل أنثى تحمل جبلاً من الهموم خلف قناع الصمت والوقار. هي لا تصرخ، لا تشتكي، فقط تمشي.
الخاتمة: العزلة المجيدة
يختتم الشاعر نصه بحقيقة دامغة: “لا أحد يعلم من أين أتى كل هذا الحزن”. تبقى مأساتها سراً، وتبقى هي “غارقة عنهم بعالمها الغامض”.
النص دعوة للتأمل في الوجوه التي نعبرها كل يوم. تلك الوجوه الصامتة، الملتزمة، التي نظنها قوية، بينما هي من الداخل “مدن منكوبة”.
لقد نجح كاظم حسن سعيد في تحويل مشهد يومي عابر لخطوات معلمة، إلى مرثية إنسانية شفافة، تفضح قسوة المجتمع، وتمجد صمود المرأة التي تسير كالنهر، وتزهر كالوردة، رغم أنف الذئاب ورغم أنف الحزن.
إنه نص يكتب بمداد من دمع، ويُقرأ بقلب يرتجف، ليذكرنا أن خلف كل “جبة وحجاب” وسجل مدرسي، توجد إنسانة، وربما.. مدينة كاملة تبكي بصمت.).