كاظم فنجان الحمامي*:
وأنت تنظر إلى مدينة الفاو من واجهتها المائية تبدو لك اليوم مثل وجه امرأة عجوز قابعة في كوخها القصبي البائس, وتنزوي خلف مراسي سفن الصيد المهجورة. . امرأة مفجوعة طاردتها لعنة النفط, وأفزعتها الاعتداءات المتكررة, فجلست عند بوابة الكوخ بانكسار, لتروي للناس حكايات أشرس المعارك الكاسحة, وأعنف الاشتباكات الحربية المتهورة, وتسرد لهم فصول الهجمات المتلاحقة, وما انهمر فوق رأسها من حمم الراجمات والقاذفات والقاصفات, التي نبشت بصواريخها تربة الفاو, وقلبتها رأسا على عقب, فأحرقت الأخضر واليابس, وجرفت معالم المدينة القديمة, ودمرت بساتينها, وعبثت بواحاتها المزدانة بأشجار السدر والحناء, وحولتها إلى أكداس من الرماد الأسود. لكنك إن أمعنت النظر جيدا في بيوتاتها المشيدة بعد عام 1989, والمبعثرة حول أرصفتها المحطمة ستراها مدينة يعفر وجهها غبار الصحراء, وتحاصرها المياه المالحة, وتخنقها رطوبة الرياح الجنوبية الشرقية, المشبعة بزفرات جزر المحيط الهندي, ويكاد يقتلها العطش كل يوم, ويمكنك أن تحس بهمومها ومشاكلها حتى قبل أن تطأها قدمك, فقد طوقتها المستنقعات المنتشرة هنا وهناك, بما توفره من بيئة خصبة لتكاثر البعوض والذباب, وتوالد الخنازير البرية الهائجة.
توطدت علاقة المدينة بالبحر منذ بدايات العصر السومري, وارتبط مصيرها الملاحي بشط العرب منذ قرون. واكتسبت شهرة عالمية واسعة بعد ان مر بها قابلو التلغراف المحوري الدولي الذي كان يصل أوربا بالهند, ويمر بالفاو, ثم جاسك, فكراجي, وتوسعت في شهرتها بعد عام 1923 حينما صارت مقرا لسفن الحفر المشتركة بمشروع تعميق مدخل شط العرب من جهة البحر. وهو المشروع الذي كان يعرف بمشروع السد الخارجي, والذي أسفر عن فتح قناة بحرية جديدة, قادرة على استقبال السفن العابرة للمحيطات, أُطلق عليها قناة (روكا). وهي مفردة من المفردات الانجلو هندية, التي استخدمتها شركة الهند الشرقية آنذاك لتوثيق صورة هذه القناة في ذاكرتنا الملاحية. فالروكا تعني الوثيقة القانونية المكتوبة بخط اليد, والتي ينبغي عدم المساس بحدودها, وعدم التفريط بها. وقد عثرت بنفسي على هذا التفسير من خلال تعمقي في البحث والتنقيب عن سر الاسم الغريب, فوجدته في قاموس المفردات الانجلو هندية, وهي المفردات التي كانت تتعامل بها خطوط ومكاتب الشحن البحري في حوض الخليج العربي قبل القرن الماضي.
كانت السفن الخليجية القديمة تنطلق من الكويت والبحرين وقطر والإمارات فترفع أشرعتها بوجه الريح العاتية, وتمخر عباب البحر صوب مدينة الفاو, لتجلب المياه العذبة من منعطفات شط العرب, فتملي جرارها وخزاناتها بالماء الزلال, ثم تعود أدراجها إلى البنادر التي انطلقت منها لتقوم بتوزيع المياه هناك.
أما اليوم فقد انقلبت المعادلة وصارت مدينة الفاو تروي ظمأها من المياه المستوردة من قطر والإمارات والكويت, وتعيش على ماء الـ (RO), الذي تحمله الصهاريج المرسلة إليها من البصرة, فقد طغت مياه البحر على الفاو, وتغلغلت الملوحة في جداولها, وارتفعت نسبتها فوق المعدلات المرفوضة, وصار ماؤها كالسم الزعاف. . اما سفن الصيد فقد تعطلت تماما ولم تعد تمارس نشاطها البحري بسبب الحملة (الوطنية) الرامية إلى حرمان سفن الصيد العراقية من مزولة صيد الأسماك في عرض البحر.
من يصدق أن أغنى مدينة نفطية في كوكب الأرض تعيش اليوم في هذه المملحة الصحراوية الخانقة ؟؟. ومن يصدق إن أقدم مدينة مينائية عراقية تطوي الآن أشرعتها الممزقة, لتستخدمها أكفانا لتاريخها المدفون في المقبرة, التي شيدتها من حطامات السفن المصلوبة على أرصفة مراسيها البالية ؟؟. ومن يصدق إن محطة السيطرة الملاحية في الفاو, والتي كانت تتحكم بحركة السفن الماخرة في حوض الخليج برمته, وكانت برقياتها اللاسلكية المشفرة بلغة (مورس) تصل إلى مقتربات مضيق هرمز ؟؟, فمن يصدق إن هذه المحطة ترزح الآن تحت الأنقاض ؟؟, ومن يصدق إن المدينة التي كانت رمزا للعطاء والثراء باتت تستجدي العطف والإحسان من السفن الرخيصة العابرة ؟؟. ومن يصدق ان أكبر شبكات خطوط النفط في الأوبك والأوابك تمر بين منازل سكان هذه المدينة البائسة, التي صارت رمزا من رموز الجوع والعطش ؟.
من المؤكد ان جماعتنا سيتذكرون الفاو, ولكن بعد بضعة أسابيع لاستخدامها مسرحا لحملاتهم الانتحابية القادمة, ثم يسدل الستار عليها بعد انتهاء موسم الانتخابات, لتموت من العطش, وتلفظ أنفاسها الأخيرة بين دعامات الأرصفة المصلوبة على الضفاف, وتغرق في مستنقعات الملح والوحل الأسود.
——————
* كاظم فنجان الحمامي: خبير بحري عراقي وكاتب من البصرة