قيس العذاري :
لابد إن المثقف يشعرُ بالفرح والسرور لكل بادرة ثقافية، تأتي من خارج المؤسسات الرسمية ولا نقول السلطوية، لأننا نعيش في عصر ما بعد الدكتاتوريات في العراق أو «العراق الجديد»، ومجلة أدبية وثقافية أو مؤسسة ثقافية مستقلة أو دار نشر مستقلة، تستحق كل الدعم المالي والمعنوي،
لأنها تصدر وتؤسس بجهودٍ شخصية خالصة من أديب أو شاعر أو قاص وروائي أو مثقف أو صحفي ، ويكتب فيها نخبة مميزة من الكّاب والادباء العراقيين والعرب، أو تأخذ على عاتقها نشر الكتب والاصدارات الجديدة غير المنشورة ، بدون قيود وشروط، سوى المستوى الرفيع والراقي للمواد ،ولا فيتو على المواضيع أو المحتوى وما شابه، والتي دائماً ما تُسبب الاحباط للادباء والكتّاب، سواءاً في العراق أو الوطن العربي .
هنالك عشرات المؤلفات التي تنتظر النشر أو مئات المؤلفات والابداعات، بشتى مجالات الكتابة الابداعية والفنون، بسبب الشروط والفيتو والمنع وسواها من الاساليب التي مضى عليها الزمن ، فمن من الادباء والكتّاب في العراق لا يتذكر لجان الفحص والرقابة على المنشورات في جميع المجالات الثقافية والاكاديمية والفنية في العراق أو الاقطار العربية ،بحيث باتت تشكّل عقدة مستعصية للمثقف ولمنتجيّ الثقافة في الوسط الادبي والاكاديمي ،وهما المصدران التنويريان بأي مجتمع من المجتمعات المتقدمة أو النامية ، فكانت تلك المؤسسات تشكلُ حاجزاً صعب الاختراق بشروطها التعسفية والمنع والتشكيك والعراقيل الروتينية والإدارية المتخلفة، ازاء أي نهوض ثقافي واكاديمي وابداعي، يتعلق بمسائل التنوير والانفتاح والتبادل الثقافي والفني بين ابناء الوطن الواحد وفي الوطن العربي أو مع العالم .
لكن كل هذه الحواجر والموانع تهاوت لعدّة أسباب، أبرزها اكتساح العالم الرقمي لوسائل النشر والنشر الفوري، وقلّة تكاليف تأسيس الجرائد والمجلات والمؤسسات الثقافية والفنية على الانترنيت، وأنتشارها ووصولها للقرّاء بشكلٍ واسع، لا يمكن مقارنته بوصول جريدة ورقية أو مجلة أو كتاب أو ماشابه ، واصبح بامكان القارىء أن يجد كل ما يبحث عنه على الشبكة العنكبوتية «الانترنيت» بدقائق معدودة، بدلاً عن الانتظار لاسبوع أو شهر، ليصل أليه كتاب مطبوع أو مجلة أو جريدة أو أي نشاط ثقافي وفني وتنويري، وبانتشار واسع النطاق من جميع بلدان العالم ، كما لا يمكن مقارنته بالمطبوعات الورقية، لبطء وصولها وتخلفها الفني والتقني على السواء ، مقارنة بالمنتجات الثقافية والفنية التي تعتمد الاخراج والاصدار الرقمي .إضافة الى إن العالم الرقمي والافتراضي، خفف من غلواء الرقابة أو الرقابات على المنتج الادبي والثقافي بشتى انحاء العالم، وبالخصوص العالم الثالث أو النامي الذي تكثر فيه الرقابات حماية لانظمته ووحدانية قيادته، فاجبرها على الخروج من قوقعتها الذاتية الى عالم مفتوح.. كل شيء فيه معرض للنقد أو الرفض والقبول بدون وصاية من أي جهة كانت سلطوية أو رقابية بدون شروط أو الزامات مخلة بحرية الابداع وفضائه .
كما إن العالم الرقمي اتاح ترجمة النصوص والمنتجات الثقافية بشكلٍ فوري بدون تدخل وسائط سلطوية أو رقابية من أي نوع ، إضافة الى إنّه اتاح المجال للمنتجات البصرية الفنون التشكيلية، والنحت ومنتجات الصناعات الحرفية والشعبية، وسواها التي تحمل تاريخاً خاصاً يتميز فيه كل بلد عن الآخر، رغم القواسم المشتركة بينها كفنون شعبية أو منتجات بلدية خالصة، تعبّر عن هوية وتاريخ ومسيرة تطور البلدان في جميع المجالات الفنية والثقافية، فيمكن لنا اليوم التجول في معارض تشكيلية ونحتية أو حرفية وشعبية في أي بلد نختاره للتعرف على فنونه من خلال الشبكة العنكبوتية، بدون رقابة أو خوف أو بمعرض نحتي أو ماشابه أو لوحات تشكيلية منفردة أو منحوتات سواء كانت قديمة من عصور سابقة أو حديثة انتجها فنانون معاصرون ، إضافة الى التصاميم الهندسية في البناء والعمارة، وسواها المرتبطة بالفنون البصرية والمدنية بشكلٍ خاص دون عناء يذكر.
ويضاف الى ذلك ميزة التفاعل المباشر مع المنتج الاديب أو الكاتب أو الفنان او المبدع أو الشاعر من خلال فورمات المراسلة المباشرة المرفقة مع المادة المنشورة ، وهذا ما لا تتيحه المنتجات الورقية أو غير ممكن في المنتجات الورقية ، وفورمات التفاعل الفوري هذه تلعب دوراً كبيراً بانتشار المنتج ،خارج حدود بلد منتج النص أو المادة الابداعية والفنية، ولكننا لحد الآن لم ندرك أهمية العالم الرقمي والاستفادة الفائقة من الشبكة العنكبوتية في اختصار الزمن الى اقصى ما يمكن، ومازال الورق يلعب دوراً مهماً في حياتنا العملية مع كل ما يرافقه من رقابة وعسف وتشويه للابداع وحجره واستغلاله سياسياً وسلطوياً، وفي النتيجة تفريغه من محتواه الابداعي والثقافي ، ومن المفيد دعم المؤسسات الثقافية المستقلة أو المبادرات الثقافية والفنية المستقلة على الشبكة العنكبوتية للتخفيف من غلواء الاحزاب والسياسية والسياسيين، ومنعها من التحكم بالمنتجات الادبية والثقافية سواء من خلال شروطها المتخلفة أو رقابتها المنافية لحرية الابداع الثقافي، وكذلك منعها من استغلال امكانياتها المالية للسيطرة على الفضاء المعلوماتي، وما يبثّ على الشبكة العنكبوتية .
والمثقف والفنان والمبدع الحقيقي، يعرف بأنه لا يمكن له أن يعمل وينتج تحت الرقابة أوالخوف، ويلزمه فضاء ابداعي حرا ً خال من الرقابة والمحاسبة الفضة على ما ينتجه بجميع المجالات الثقافية والفنية ، والعالم الرقمي من خلال الشبكة العنكبوتية كفيل بإيصال صوته وابداعه الى أي مكان يريد، ولأي بلد من البلدان، وبأي لغة من اللغات بالوسائل التي يتيحها العالم الرقمي في عصرنا ،بدون عسف ورقابة ومحاسبة فجة أو سلطوية متخلفة ، وقد يأتي ربّما يوم ما أقرب مما نظن لا نحتاج فيه الى الورق ،سوى في استنساخ المواد والبحوث التي نود استنساخها ، أو الاحتفاظ بها في مكتباتنا الخاصة .. عندئذٍ يمكن للتنويريين والمثقفين والمبدعين أن يقولوا بثقة وداعاً للرقابة .
—