على مضض، حملت حقيبتي بعد ان وضعت فيها بعض الأوراق الرسمية لمعاملة اعادة البطاقة التموينية لعائلتي، وتوكلت على الله وغادرت البصرة ليلاً وكنت أرسم في ذهني صورة لبغداد.. تلك الصورة التي حُفرت في الذاكرة يوم وطأة قدماي ارضها في السبعينيات من القرن الماضي.. صورة زاهية، جميلة، ترفل بالخير والمحبة والتسامح..
لم يكن القلق من المجهول هو ما يعتريني في لحظات مكوثي في الحافلة انما هناك ما هو أهم: هل ستعرفني بغداد يوم التقيها..؟ هل ستعرف ذلك الوجه الجنوبي الذي أكله الدهر بفعل الظروف وتحضنني كما كانت تفعل..؟ أسئلة كثيرة تمتد امتداد المسافة بين البصرة وبغداد..
ما كانت بغداد هكذا، جملة اعترضت همسي حيثما استقبلتني قمامة لتتركني لأخرى..صورة باهتة لمدينة لم تصح بعد من ليل كئيب.. فجر بغداد البارد يشعرني بالتيه وأنا ارتطم بين هذا الصوت وذاك، علاوي..علاوي.. الكاظم..الكاظم! أصوات لسائقي الباصات وهم يطوفون حول المسافرين، لم أجد أحداً لأسأله: دلّني على بغداد، المدينة التي احببتها..! دلّني على صحبي ومقهى حسن عجمي وكعك السيد، دلّني على الميدان والباب الشرقي وساحة الاندلس، دلني على الرصافي والزهاوي والسعدون، دلّني على الحيدرخانة والشورجة، دلّني على الصوبين الكرخ والرصافة، دلّني على دجلة الخير أم البساتين، دلّني على فرات يفيض بمائه..
بغداد أم الدنيا تبحث عن دنيا أكثر أمناً وسلاماً ومحبة.. تبحث عن أهلها الغائبين الحاضرين بين أزقتها.. تبحث عن محبيها بعدما أثخنها الغرباء جراحاً وألماً..
بغداد، ايتها الصبية التي سلبت عذريتها وشاخت قبل أوانها، عذراً، قدرك ان تكوني في مهب العاصفة وفي حلق البركان.