هنالك سؤال مهم يخطر على البال :ما هي القصة القصيرة ؟ هل هي نسخة مقطوعة وغير كاملة من الرواية’ أو أنها شكل عام ’ أو نوع من الأدب ذو محتوى ’ وشكل وهيأة متميزة ؟ لقد شغلت هذه الأسئلة عددا كبيرا من المهتمين والمفكرين في قضيتي الشكل والهيأة ’ ومن أبرزهم ( فرانك أوكنر و أج . أي ييتس ) . ولا يظن أكثر الكتاب النقاد/ بنحو عام / إن القصة مجرد عمل أعد ليكون قصيرا’ بيد أنه عمل فريد ’ له أساليبه ومؤثراته ’ ولا يمكن أن ينجز بواسطة طريق آ خر . قلنا فيما سبق ’ إن للقصة مؤثرات ’ فما هي هذه المؤثرات ’ وما هي التقنيات التي ينبغي أن تتوافر فيها ؟ . إن من أهم الأجوبة المفيدة – في هذا المجال – ما جاء على لسان ( أدغار آلن بو ) عام 1944 عندما كانت القصة في مراحلها الأولى : ( لقد ظن الكثير إن الحكاية النثرية تقبع تحت القصيدة الشعرية المنثورة في هيكل الفنون الأدبية ) . فيما يخص ( أدغار آلن بو ) فأنه يظن إن الرواية لا تمتلك مثل هذا التماسك ’ وهي غير قادرة على اكتساب القوة الهائلة التي يمكن اقتباسها من الهيأة ’ أو الشكل العام ’ وهو يظن أيضا إن القصة القصيرة تختلف عن الرواية ’ فهي أكثر سموا من الأخيرة . ابن– بو – الرومانتيكي لا يقيم القصة بل يقيم تأثيراتها الكبيرة ’ وعلى الرغم من انه يهتم بانعكاسات القصة ’ خاصة تلك التي يروم التوصل ’ أو البحث عنها بنحو رئيس مثل : الرعب والعنف والشجب ’ فأنه يظن أنها تؤثر تأثيرا بسيطا في أهم كتّاب القصة القصيرة .ويشترك الكثير مع – بو – في رأيه الذي يعتمد على التفرد والتماسك . لقد كتبت ( إليزابيث باوند ) في ( الانطباعات المتجمعة ) : ( ينبغي أن تتوافر في القصة القصيرة العاطفة المركزية ’ والتلقائية الذاتية الموجودة في الشعر المنثور ’ كما وينبغي – أيضا – أن تمتاز بالتماسك والوضوح ’ إذ أن التماسك والوضوح الشعري جوهريان لصياغتها حتى يمكننا القول أنها تقف عند حافة النثر ) . وعلى الرغم من إن هذا التشبيه بين القصة ’ والشعر المنثور تشبيها يغلفه القلق ’ والااستقرار ’ بيد أنه تشبيه واضح . لقد تطرق الكثير من الكتاب ومنهم ( وليم فوكنر ) قائلا في مقابلة معه عام 1956 ومن دون شك ’ وبدرجة لا بأس بها من الجدية : ( عندما لا يجد من يكتب’ إن باستطاعته كتابة الشعر ’ فأنه يلجأ إلى كتابة القصة القصيرة التي تعد شكلا متسلطا ’ ومثيرا بعد الشعر ’ وحين يفشل في الاثنين ’ عند ذلك يرتمي في أحضان الرواية ) . ومثلها مثل القصيدة المنثورة ’ فأن القصة القصيرة تتطلب من القارئ اهتماما كبيرا’ وتركيزا ذهنيا في كل التفاصيل ’ حتى يتمكن من إدراك سمو التأثيرات اللاحقة . إن القصة القصيرة تعتمد على الواقعية ’ وعلى المحسوسان الشيئية التي تدور من حولنا ’ كذلك على الانطباعات الحسية التي يظهر معناها من دون إضاعة وقت ’ وهي بعد ذلك تشبه الشعر المنثور في إنها ذات شكل مقتضب ’ إذ أنها لا تحمل إلا الشيء القليل من الخروج على الحدث الأصلي وهي تسجل عالمها الخاص . إن أحداث القصة القصيرة التقليدية تُضغط فيضمن حيز زمني ’ وهيكل ذي بعد محدد وقصير ’ بيد انه يمتاز بالديمومة على الغالب ’ اذتبدو صفات الشخوص قليلة ولا يحصل أي تطور بعد ذلك . أما الخلفية ’ والشكل فتكون ضمنية ’ ولا تظهر واضحة وهي تشبه الكثير من أنواع الدراما إذ تبدأ إحداث القصة بإيقاع غير سريع ثم تستمر قدر الإمكان ’ وفي هذا الخصوص يقول الكاتب ( انطوان تشيخوف ) : ( على المبتدئين أن يطووا الجزء الأول من الكتابة لأنه يكون سطحيا ) وتكون الانطباعات شديدة كما قال ( بو ) . لنأخذ على سبيل المثال ( نينوجكا ) ل ـ ( تشيخوف ) ’ ففي أقل من 200 كلمة كتب ( تشيخوف ) مأساة مصغرة ’ وساخرة ’ هي عبارة عن مثلث للحب يكون فيه الزوج تعيسا بسبب عدم إخلاص زوجته ’ وخيانتها له مع أقرب أصدقائه ’ فقد ذهب إليه يائسا لينصحه قائلا : ( اخبرني’ ماذا تفعل نينوجكا الآن كما تظن ؟ هل تستمر بالحياة معي أو أفضل لها أن تلجأ إليك ؟ ) . وجاء الحل غير مشفوع بالعاطفة ’ إذ قمع الكاتب شفقته بعناية فائقة ’ إذ استطاع القارئ أن يتزود بها لنفسه ,’ وحين نتأمل ذلك ’ نترك الكاتب يصرح بهذه العبارة : ( ستستمر نينوجكا مع نتوليينيف ’ وسأذهب لرؤيتها في أي وقت أريد ’ وسيحتل الغرفة الواقعة في الزاوية التي كانت مخزنا ’ ويحتكرها له ’ز. كانت هذه الغرفة معتمة ’ ولرطبة ’ وكان مدخلها عبر المطبخ ’ بيد أنه يستطيع حجز نفسه فيها ’ وبذلك لا يشكل عبئا وعنصرا مضايقا لأي أحد ( . هنا ’ حاول الكاتب الدخول في مثل هذا النوع من تركيز الطاقة في 300 صفحة ’ وهذا ما سيرهق القارئ – بأي حال من الأحوال – في الاحتفاظ بهذا الشد العاطفي . أن تدفق الرواية يمكن أن يصدر من الفراغ ’ أما هيكلها ’ وشخصياتها ووظائفها فقد تنمو باضطراد حتى تنجز بالكامل . فالقاص – في أقل تقدير – وخاصة التقليدي يمكن أن يتحمل الحيل الثانوية ’ والانحرافات من ان تتدفق تدفقا سريعا داخل القصة . ومن المحتمل انه يرغب في الحصول على تغييرات في عمليتي الفراغ والشد ’ بيد أن مثل هذا النوع من التريث ’ والنمو لا ينسجم مع القصة القصيرة . إذن كيف يمكن للقصة أن تعالج هذا الأمر في مثل هذا الاقتضاب ؟ إن القصة البديعة التي كتبها ( غوغول ) ( المعطف ) تبدو جليا ’ بأنها ذات طابع قديم في الوقت الحاضر . فالوصف مطول للشخصيات الرئيسة في القصة .’ والشرح مستفيض في كل مشهد ’ وسرد الحدث بطيء . لقد كان ( تشيخوف ) جهبذا في صياغة الشكل إلا انه كان يتلكأ – أحيانا – في التضحية بمثل هذه الزخارف .إن تطور القصة القصيرة كان يميل باستمرار نحو الاقتضاب الأكبر فالأكبر . في قصة ( كاثرين مانسفيلد ) الزواج بنحو ما ) على سبيل المثال ’ كانت أكثر انسجاما تصادفيا في الاقتراب من الموضوعة والحوادث من قصة ( تشيخوف ) / شجرة الخرنوب / . هذه القصة تعالج مسألة امرأة شبقة بنحو جنوني ’ تكتشف بعد موت زوجها الطبيب بأنه الرجل العظيم الذي كانت تبحث عنه باستمرار .لقد كُتبت هذه القصة بثمانية فصول وتتضمن وقائع تبدأ من فترة الزواج إلى فترة الجحود لزوجها عند وفاته ’ واعتراف الزوجة المتأخر بأنها قتلت كبرياءه شيئا فشيئا . إن قصة ( الزواج بنحو ما ) ما هي إلا فعلا مستمرا ’ فعلا أستمر حتى نهاية الأسبوع لا غير . لقد ابتدأت القصة بالسيد / وليم / ’ وهو الزوج الذي سافر لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في بيته الريفي ’ إذ تقابل مع زوجته وأصدقائه واخذ يناقشهم ومن ضمنهم أيزبيلا . رجع في اليوم الثاني إلى المدينة ’ وكتب رسالة إلى زوجته ذكر فيها انه يبحث عن السعادة فقط . لقد قرأت ايزابيلا الرسالة لأصدقائها وسخروا منها . وللحظة ما ’ أدركت الأمر الذي قامت به ’ فوضعت الرسالة جانبا وذهبت للسباحة مع أصدقائها (( ضاحكة بنحو آخر )) . لقد اقتنعت كاثرين مانسفيلدبنصيحة أستاذها حين قال : ( اطوي الورقة إلى طويتين ومزقي نصفها ) ’ إذ كانت قصتها شديدة التماسك ’ وكانت الحوادث المتدفقة تنساب من دون انقطاع حتى تمت المأساة . هذه هي قصة مانسفيلد’ أما قصة تشيخوف فأنها متحللة ’ وطويلة’ كما أنها كثيرة البدايات والتوقفات ’ وهو بهذه المواصفات قد ضحى بشيء ما . إن الاقتضاب الشديد ( التكثيف ) كلفة باهظة ’ وقد دفعت مانسفيلد هذه الكلفة في قصتها . لقد كان الفنان ( بيل ) في قصة / مانسفيلد / شخصا هزيلا ’ وعندما اقترحت ايزابيلا عليه الرسم صرّحت المجموعة بنحو قاس ( اللون الباهت غير صحيح… يوجد اللون الأصفر بنحو كبير )) . عندما راقت الملاحظة لأزابيلا أصبحت هزيلة أمام الآخرين ’ وكما قالت ( الزابيث بوين ) : إن عيب القصة القصيرة يكمن في (( الضيق العاطفي )) الذي يكتنفها ’ وهذا ما يلاحظ في هذه القصة . وعلى النقيض من ذلك فأن الفنان ( رايبوفسكي ) في قصة تشيخوف ( لاسنجر ) قد صيغ صياغة عميقة بحيث يمكن أن نظن انه فنان مهم ’ فعندما انتقد لوحة ( اولكا ) فأننا شاهدنا صراعا أصيلا بين استقامته الفنية ورغبته في ( اولكا ) . لقد قال ( هربرت اليسورث كوري ) عام 1917 : (( إن الأسلوب الكامل للقصة القصيرة هو الدم الذي يسري في عروق القريب في حلبة العشاء ’ أو في طريق ما ’ أو في جولة مرحة )) . ومما لا شك فيه فأن القصة القصيرة مظهر من مظاهر الجري الحثيث المعاصر على الرغم من إن نظرة / كوري / المرتعشة حيال العالم مفعمة باللحظات السقيمة التي يمكن أن ينبذها حتى كافكا . على أية حال ’ إن ( كوري ) ’ لم تلامس الصعوبة التي يلاقيها كاتب القصة القصيرة ’ وهي المدى الذي يمكن فيه اختصار الجمل من دون ركاكة ’ والكيفية التي يخلق بواسطتها حدثا مؤثرا واحدا من دون أن يكون هذا الحدث عابرا . إذن كيف يمكن للقصة القصيرة أن تقتبس هذا العمق وتحيط به ؟ كما لاحظنا ’ فأن كاتب القصة القصيرة لا يتمكن ككاتب الرواية أن يوقف سرده لسلوك الشخصيات عند تحليلها ’ أو عند رسم صورها . انه لا يستطيع أن يستغل الزمن لرسم صورة معينة ’ وعليه أن يكون قريبا من هيكل وإطار القصة ’ وان يضع مضامين تعقيداتها ’ ويحشر الشخوص ’ ثم تأتي مهمة القارئ ليستنتج البقية الباقية . وحين يخرق كاتب القصة هذه الممارسات مثلما أوقف ( ملفيلد ) / بارتييلي / ليختصر الخلفية ’ فكانت النتيجة سمجة وغير متحركة ’ ومخالفة ومتنافرة مع روح القصة القصيرة . ثمة طريق لتلافي مثل هذه الاختصارات بواسطة ( الإيحاء ) . إن القصة التي تبين ( على حافة جبل الجليد ) في جملة / همنغواي / هي اللب ’ أما ما تبقى من جبل الجليد فيعد شيئا موحيا . في بعض الأحيان تمثل التفصيلات ثروة كبيرة من المعاني ’ أو تظهر لنا مفردات حياة طبقة اجتماعية ’ أو خلفية شخصية ما ’ وهذا ما يعد وسيلة من وسائل الإيحاء . فعربة بائع الحليب في قصة ( موباسان ) ( خارج البلد ) تمثل عائلة من الطبقة الوسطى الدنيا ذات المستوى المتواضع’ وهنالك أمثلة كثيرة في هذا المجال في قصة ( همنجواي ) / التلال تشبه الفيلة البيض / أو غيرها . لقد ذكر ( تشيخوف ) في رسالة إلى أخيه بأن على الكاتب أن يكون : (( في رأيي ’ ينبغي وصف الطبيعة وصفا مقتضبا للغاية , وان تقدم كما هي و بالنحو الصحيح )