شهوة الجرح لآه يلوذ بها
وشهوة الحرية لصهيل يرتقي سلّم الشمس
وشهوة حبري لفضح الجرح
وهو يعانق الوجوه خلف العباءات البيض ..
كان لزاما على حروفي ان تحبو اليك..
ان تقتفي أثر الياسمين العالق في
(مئذنة الشحم) ..
أن اطرق باب صمتك بيدين
ترتعشان لهفة لعناق هواء
تنفسته ذات شعر ..
لأعانق بأصابعي قرميد بيتكم
وبقايا خضرة( ام المعتز) في باحة عطركم
لكن الدار كانت صماء
فلم تسمع نداء الشوق وهو يطرق اصابعي
ولم تلتمع على جدرانه دموع اللهفة
وهي تبحث عن ملاذ له ضحكة عينيك
كانت المرايا مطفأة
والقرميد يعلوه غبار العابرين
كان الموت يرمي بصمته على مزلاج انتظاري
لم يفتح الباب احد
فقد اعلن الباب احتجاجه
واعلن المساء رحيلة بلا نجوم
غير ان مقبرة (باب الصغير)
كانت تشهد في ذلك المساء
صخبا ..
تجمع حوله الموتى زحفا
فوق موتهم
لينصتوا بشغف
لخضرة عينيك وهي تتلو
قصيدتك الجديدة
تلك التي لم تطالها الفؤوس والبنادق
فقد كانت قامة قبرك اطول من اعناقهم
وناصية قصائدك
تجانب النجوم
وموتك الفارِه
تحفه الزرقة
بموكب شعري مهيب
——————-
لأنك نـــــزار
الشاعر الذي منحني صداقته قبل ان يمنحي شعره
وأمسك بيدي وعلمني أن الحبر نافذة الحرية والكرامة والإنسانية التي وعيت على استلابها بمسميات شتى ..
لأنك نـــزار ..
الذي أمسك بمنديل حنانه وراح يمسح عن وجهي تلك الدموع المملّحة بعلامات الإستفهام .. و يغسل الخوف عن جبهة قلبي ويجلسني على حجره ويعلمني أبجدية الشمس نكاية بالظلام الذي أقنعوني إنه قدر وإن مخالفته ستجلب لي اللعنات ..
وكنت سعيدة بتلك اللعنة التي اصبحت قدري منذ دخولي مملكتك ..
هل يكفي أن ازورك لأقول لك هذا الجميل والعرفان ؟
أعرف إني جئت متاخرة .. وهذا قدر الفرح الذي يأتي متأخرا والعناق الذي يأتي بعد ان يلوي أعناقنا انتظارا .. لأنه اتى متأخرا عن العمر بعمر لكنه. . . يبقى عناقا ..
وفرحا أكيدا ..كفرحي الذي يدب في صدري وانا اسعى اليك رغم وعورة الدرب ..
كنت اؤمن ان مجيئي اليك سيكون محفوفا بملائكة الرب الذي رسم لي خطواتي نحوك وقادني كما يقود طفلة الى صفها الأول ..
وكنت الصف الاول الذي ارتبكت خطواتي إليه شوقا واندهاشا .
لطالما كنت اؤمن بالأشياء القدرية التي تقودنا إلى حتفنا وسعاداتنا وتعاستنا أيضا
لذا فلم يكن من قبيل المصادفة أن يصدر كتابي من القاهرة ليتصل بي الناشر إسلام شمس الدين في دمشق ليعطيني عنوان القاصة ميس عباس التي تزامن صدور مجموعتها القصصية مع مجموعتي ..
كانت فرصة جميلة أن أتعرف على ميس التي كانت تسكن في طرطوس وليس دمشق مما صعب علي لقاءها للحصول على بعض نسخ الكتاب .. مع ذلك قررت أن اسألها فيما اذا كانت تعرف الطريق الى بيت نزار قباني !
وكانت دهشتي وأنا أسمع جوابها وهي تعطيني رقم أحد الأصدقاء الذين يسكنون في مئذنة الشحم وهو رجل (ختيار) على حد قولها ويعرف كل شيء عن منزل نزار لأنه يقع بالقرب من محلّه !
يال الدهشة .. صاح القلب !
جهّزت كاميرا القلب ورحت أغيب في زحمة الشوارع الدمشقية الضاجة بالعراقة والقدم ..
كان قلبي يخفق وشعرت إني ذاهبة لموعد عشقي ..!
هذا ما أكدته لي رجفة اصابعي وهي تمسك بالقلم والدفتر الذي أردت أن ادوّن به كل شيء عن لقائي بك .. فالعاشقة تصاب بنوبة نسيان وغباء مدهش وأتصور من هذا المنطق غنت شادية في زمن الأبيض والأسود ( ييجى ابويا يطلب فنجان قهوة اعمله شاي وأديه لأمي !! )
لذا كان علي أن اتغلب على هذا النسيان بذاكرة من حبر وبياض .
كانت السيارة تجتاز الزحام في طريقي نحو (مئذنة الشحم) التي أصبحت صرحا ثقافيا أثّثه انتمائك لأحد أحيائها وصرحا سياسيا تعبويا فقد كانت تشكّل في عهد الإنتداب الفرنسي مركزا للمقاومة حيث تعقد في احيائها الفقيرة الإجتماعات السرية وتلقى في بيوتها الصغيرة الخطب الثورية التعبوية.. وأدرك اللحظة أن ذلك لم يكن بمحظ الصدفة ! أن تكون مئذنة الشحم مركزا ثوريا وفي الوقت ذاته مركزا شعريا إنطلقت منه شرارة القصيدة النزارية التي أتت على تبن الكلام وأشعلت النار في ثياب المتثاقفين وأنصاف الشعراء !
قهوتك التي داهمتني في سوق مدحت باشا
في قلب دمشق تماما
وعند مدخل سوق (مدحت باشا ) تحديدا..
توقفت السيارة وأعلن السائق أن علي المشي واجتياز السوق المسقوف لكي أصل إلى مئذنة الشحم .. حيث تنتظرني خضرة عينيك !
كان ذلك مبعث بهجة أخرى ..
أن أطأ بأقدامي شارعا كنت تسير عليه ذات يوم ..
أن اجول بنظري تلك الدكاكين الصغيرة وهي تبيع القهوة لأتسائل كم قصيدة كتبت تحت تأثير هذه القهوة المسكرة ؟
ومن أي محل ترى كنت تبتاعها؟
صوتك يدوي وأنت تردد في أسماع قلبي :؛
زِرَاعَةُ القَلْبِ تَشْفِي بَعْضَ مَنْ عَشِقُوا
وَمَا لِقَلْبِي ـ إذا أحْبَبْـتُ ـ جَـرَّاحُ
مَـآذِنُ الشَّـامِ تَبْكِـي إِذْ تُـعَانِقُـنِي
وَ لِلمَـآذِنِ .. كَالأشْـجَـارِ.. أَرْوَاحُ
لليَاسَمِـينِ حُقُـوقٌ في مَـنَازِلِنَـا…
وَقِطَّةُ البَيْـتِ تَغْفُـو حَيْـثُ تَرْتَـاحُ
طَاحُونَةُ البُنِّ جزْءٌ مِـنْ طُفُـولَتِنـا
فَكَيْفَ أَنْسَـى ؟ وَعِطْـرُ الهَيْلِ فَوَّاحُ
كنت أتجول وفي قلبي رغبة لأسأل كل بائع وكل عابر عنك ..
فيما إذا كانت له صلة بك ..
أو كان قد التقاك مرة .. أو شتمك مرات ..
في هذا السوق .. كانت تتجلى دمشق العريقة كما لاتتجلى في أي مكان اخر ..
كان السوق موازيا لسوق الحميدية الشهير ألذي يقصده السائحون من كل مكان ..
لكن سوق مدحت باشا كان يختلف بمحتواه ورائحة التأريخ التي تفوح من محاله القديمة التي تبيع كل شيء يذكّرك بتأريخ دمشق .. وبالتالي يذكرني بك ..!
كان هذا السوق مدخلا لعالمك .. كإنني دخلت ثقبا في الزمن أخذني الى زمنك الذي احببته بخيره وشره ..
السجاد الدمشقي والأقمشة الفاخرة على الجوانب تقابلها الأعشاب ورائحة القهوة ..
تلك القهوة التي بقيت عالقة في ذاكرتي وأنا أقتفيك ..
فالذاكرة عطر .. والعطر ذاكرة لايطالها النسيان .. فكم من وردة ذبلت وبقي عطرها يمارس احتلالا غامضا لذاكرتنا ..!
وكم من حكاية انتهت لكن عطرها ظل يداهمنا وينكأ جرحنا !
عاشقة تائهة تبحث عن خطاك كنت أنا .. في حضرة غيابك المتفاقم حضورا ضوئيا يقتفيه قلبي في كل خطوة ..
لكن أقدامي كانت تستعجلني للدخول إلى حي مئذنة الشحم لأبحث عن السيد حسام جبارة الذي دلتني عليه معجزة بيضاء إسمها ميس !
وحسب الوصف الذي أعطاني إياه السيد حسام جبارة وجدتني في مدخل حي مئذنة الشحم !
كان ذلك بحد ذاته كفيلا بأن يجعل قلبي ينبض بسرعة ألف حصان مجنون !
فقد اقترب الموعد ..!
وكل حجر يرسم خطواتك أمامي ..
هنا .. كنت تسير ذات قصيدة ..
وهنا كنت تقتفي أثر امرأة احببتها كما أقتفيك اللحظة ..
وعند هذه الشرفة انتظرتك إحدى المعجبات لترمي الورد لأناقة خطوك ..
هذه الحواري الضيقة .. الكالحة .. المعتّقة بالعراقة كانت تبدو لي أجمل من البنايات الفارهة العارية الظلال والتأريخ .. مباني بلا ماض ولامستقبل ..بلا ظلال أو معنى ..
مجرد أحجار ملونة لاروح فيها ..
عند ناصية كل شارع كنت أرى وجهك يرافقني ..
يأخذ بيدي وأنت تلومني لأني قطعت كل هذه المسافة لأقتفيك قصيدة اتفيأ تحت ظلالها الوارفة !
وكنتَ بذلك اللوم المحب تستعجل خطواتي التي لم يتبق أمامها إلا أمتار قليلة تفصلها عنك .. عن جنوني الذي بدأ حي (مئذنة الشحم ) يضيق به ويشفق عليه !
من أرض بلقيِس الراوي إلى مئذنة الشحم
( لا بد من العودة مرةً أخرى إلى الحديث عن دار (مئذنة الشحم) لأنها المفتاح إلى شعري, و المدخل الصحيح إليه.
و بغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة, و منتزعة من إطارها.
هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة…)
من أرض بلقيس الراوي ..
بلقيس العراقية التي أنجبتها بغداد وابتلعتها حرب القبائل ..
جاء الحنين يسعى إليك ..
ولأنها كانت خاتمة نساءك التي جعلتك ناسكا في محراب عشقها وناقوسا يدق الحزن كل ليلة تسجل في سجل السماء غيابها .. كنت أعرف إنك ستنتظرني عند ناصية بيتكم .. لتأخذ بيدي وتمسح عن جبيني غبار المسافات .. فلنا بك صلة شعر وحب ودم ..
دم الحياة والموت الذي كتبك في اقسى قصيدة ماتزال حتى هذا اليوم تضرب بقيعان قلوبنا لتتفجر الروح آبارا من دمع سخي : ؛
بلقيس…
كانت اجمل الملكات في تأريخ بابل
بلقيس
كانت أطول النخلات في أرض العراق
كانت إذا تمشي ..
ترافقها طواويس
وتتبعها أيانل
بلقيس ياوجعي
وياوجع القصيده حين تلمسها الأنامل
ياهل ترى
من بعد شعرك هل سترتفع السنابل ؟
يانينوى الخضراء
ياغجريتي الشقراء
يا امواج دجلة
تلبس في الربيع بساقها
أحلى الخلاخل
قتلوك يا بلقيس
أية أمة عربية
تلك التي
تغتال اصوات البلابل ؟
أين السموأل ؟
والمهلهل ؟
والغطاريف الاوائل ؟
فقبائل اكلت قبائل
وثعالب قتلت ثعالب
وعناكب قتلت عناكب
قسما بعينيك اللتين اليهما
تأوي ملايين الكواكب
سأقول ،ياقمري ،عن العرب العجائب
فهل البطولة كذبة عربية ؟
أم مثلنا التاريخ كاذب ؟
بلقيس
لا تتغيبي عني
فإن الشمس بعدك
لاتضيئ على السواحل
سأقول في التحقيق :
إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول
وأقول :
إن حكاية الإشعاع ، أسخف نكتة قيلت
فنحن قبيلة بين القبائل
هذا هو التاريخ يا بلقيس
كيف يفرق الإنسان
ما بين الحدائق والمزابل
بلقيس
أيتها الشهيدة والقصيدة
والمعطرة النقية
سبأ تفتش عن ملكتها
فردي للجماهير التحية
يا أعظم الملكات
يا امرأة تجسد كل أمجاد العصور السومرية
بلقيس ياعصفورتي الأحلى
ويا ايقونتي الاغلى
ويادمعا تناثر فوق خد المجدليه
اترى ظلمتك اذ نقلتك
ذات يوم من ضفاف الأعظمية
حكاية حب ورحيل تعّرش كل عام فوق أصابعي لأملأ الأفق بحزن كثيف ..
مثل هذه الجراح تظل طفلة في رحم الذاكرة ولاتبلغ سن الرشد كما قالت عنها قريبتك غادة السمان التي شهدت هذا الزلزال معك وفشلت في ترميمه.. هي التي كانت ترمم كل جرح بالكلمات وتبتكر عند كل خيبة صفحة بيضاء لتبدأ من جديد ..
إتصلت بالسيد حسام لأعرف إن كنت أسير في الإتجاه الصحيح فأكد لي إنه لايبعد عني سوى خطوات وسيعرفني حتما رغم إنه لم يشاهدني قبلا ..
لم أشك لحظة في إنه سيفشل في التعرف علي فالعاشقة يفضحها نبضها وصوتها وكان يكفيه أن يسمع لهفتي في السؤال عنك .. ليعرفني ويميزني بين عشرات النساء ..
كان الشارع ضيقا و لايكاد يتسع لمرور سيارة واحدة حتى ان احدى السيارت التي عبرت خلاله إضطرتني الى الالتصاق بالحائط وسحب نفس عميق لكي لا ألتصق بها ..
لم يطول مسيري حتى جائني السيد حسام الذي عرفته من ابتسامته التي سبقت خطاه نحوي
وقد منحني إهتماما حقيقيا وقدّم لي مساعدة كبيرة يسّرت لي الكثير وسهلت علي أمر لقائي بك ..
ولا أنسى الشاعر الصديق الباهر عمر الجفال الذي لم يدخر وسعا في مساعدتي والبحث في صفحات الانترنت عن كل مايخص هذا المشوار الممتد من العراق حتى قلب العاصمة دمشق .. حتى قلبك ..!
سرنا باتجاه بيتك الذي قال لي إنه لايبعد عنا سوى أمتار قليلة ..
صاح القلب بدهشته التي لم يسمعها أحد سواك :
سأطبع على كل حجر تذكار محبتي .. وأهمس لكل زهرة ياسمين في قارورة العطر التي تدعى بيتكم إني جئتك من وطن بلقيس الراوي أحمل لك وردة وأغنية لم يبتلعها النواح بعد ..
ذلك الطوفان الذي لم تشهده وهو يقتلعنا من الجذور ويزرعنا على بوابات العالم لاجئين لبقايا أرض بعد أن سرقوا منا البلاد وصادرونا بلاهويات ..
كان السيد حسام يسير معي ويخبرني كيف إنه حاول اقناع صاحب المنزل بأن أدخل والتقط بعض الصور لكنه رفض وبشده !
كان منزلك وحديقة عطرك قد بيع لإحدى العائلات الدمشقية العريقة وتدعى عائلة آل نظام بدلا من أن يتحول بيتك إلى متحف أو مزار للعشاق أو ضريح على جسد قصيدة تشاركني حتى هذه اللحظة اليتم برحيلك .
لاتحزن ..
فروحي لن يوقفها جدار .. كقدمي التي لم تستوقفها السيطرات الحدودية وشوارع الإنتظار..
يكفيني أن أقف عند باب بيتك ..
وألمس قرميده .. لتتسلل روحي إلى حديقتكم التي ظلت تطاردك بالحنين حتى وأنت تتوسد جنان الأرض ..
فجأة توقف السيد حسام أمام أحد المنازل وقال لي :؛
أنتِ الآن أمام منزل نـــزار قبــانـي
بيتك .. قارورة العطر والشعر
في الزقاق الضيق الذي تجمّع فيه الصبية للّعب ..
كان بيتك يطل بصمته وقرميده القديم وبابه الخشبي الأبيض الصغير ..
بأصابع مرتبكة تلمست جدرانه ..
بياض بابه الذي حملني إليك ورأيتك تخرج منه طفلا بشعر اشقر ..
و شابّا ببشرة دمشقية وبياض سادر ..
ورأيتك شيخا يمنح طريقته في العشق وثوريا يقسم رغيف الحرية بين الكادحين ..
في رهبة حضورك وقفت وأنا استشعرك عند كل حجر … كل ورقة سقطت من حديقتكم التي لم يمنحني ساكن البيت فرصة للقاءها ..
طرقت الباب بلهفة اطفأها الإنتظار ..
لم يفتح الباب أحد ..
وكان يكفيني أن أقف بباب بيتك .. قارورة العطر التي كتبتك قصيدة في حديقتها ..
وكان عزائي ان منزلك لم يكن محطتي الأخيرة في رحلتي اليك ..
كان علي أن أواصل سيري اليك في مملكة البياض والصمت الذي تشظى في حضرة القصائد ..
أكد السيد حسام ان كل محاولاته مع صاحب الدار قد أخفقت .. وعزّاني بأن المقبرة التي احتظنت جسدك وأعادتك إلى رحمها ليست بعيدة كثيرا عنا ..
كان علي أن اكمل رحلتي إليك ..
تلك المواجهة التي كنت أخشاها أمام جسدك المزروع شجرة دمشقية في قلب الأرض ..
ونحو مقبرة ( باب الصغير ) سارت بي خطاي مودعة حسام جبارة الذي قام بواجب الضيافة والمحبة إكراما لحضورك الموغل في ذاكرة التأريخ .
ومضيت نحوك من جديد .. بلهفة وصلت ذروتها وأنا اسابق الخطى قبل أن يدركني المغيب .
إلى مملكة العاشق الدمشقي ..إلى مقبرة (باب الصغير )؛
أكرّرُ للمرّة الالف أني أحبك..)
كيف تريدينني أن أفسِّر ما لا يفسر؟
وكيف تريدينني أن أقيس مساحة حزني؟
وحزني كالطفل.. يزداد في كلِّ يوم جمالاً ويكبر..
دعيني أقول بكل اللغات التي تعرفين ولا تعرفين..
أحبُّك أنتِ..
دعيني أفتشُ عن مفرداتٍ..
تكون بحجم حنيني إليك..
وعن كلماتٍ.. تغطي مساحة نهديكِ..
بالماء، والعشب، والياسمين
دعيني أفكر عنك..
وأشتاق عنكِ..
وأبكي، وأضحك عنكِ..
وألغي المسافة بين الخيال وبين اليقين..
* * *
دعيني أنادي عليكِ، بكلِّ حروف النداءِ..
لعلي إذا ما تغرغرت باسمكِ، من شفتي تولدين
دعيني أؤسّسُ دول عشق ٍ..
تكونين أنتِ المليكة فيها..
وأصبحُ فيها أنا أعظم العاشقين..
دعيني أقود انقلاباً..
يوطّدُ سلطة عينيك بين الشعوب،
دعيني.. أغيّرُ بالحبِّ وجه الحضارةِ..
أنتِ الحضارةُ.. أنتِ التراث الذي يتشكلُ في باطن الأرض
(.. منذ ألوف السنين..
—————————-
ومضيت نحوك من جديد ..
أسأل الرائح والقادم والباعة عن مقبرة باب الصغير ..
واستدركت في غمرة ركضي اليك إني لم أجلب لك وردا .. ولاتذكارا !؛
فبدأت ابحث في المحال المترامية على جانبي الطريق عمن يبيع الزهور …
وللمرة الأولى في رحلتي غليك لم يحالفني الحظ في إيجاد محل يبيعني زهرة واحدة اندي بها روحك الخضراء ..
لم يكن ثمة ورد طبيعي ولاحتى صناعي ..
فذهبت إليك بيدين عاريتين من الورد ..
بأمل أن أجد من يبيعه في مملكتك ..
أيها الدمشقي الذي استدرجتني ثورته وقصائده إلى المقبرة
عند لافتة حملت عنوان (مقبرة باب الصغير ) وقفت
كان المدخل إليك مشرعا بوجهي ..
بوابة المقبرة تفتح ذراعيها في كل وقت .. فهو يفتح لنا ذراعيه دوما ولايرد أحدا ..
وفي المقبرة سألت أحد الفلاحين عن قبرك ..
فقال لي إنك في المقبرة الأخرى في الجانب الآخر !
وعرض علي ان يوصلني إليك لأني سأتوه في زحمة القبور قبل أن اصل اليك وكان المساء قد افرد جناحيه ..
إتجهت أنا وفادي فلاح المقبرة إلى الجهة الأخرى من المقبرة ..
وكانت مكتظة بالزوار والسواح فقد كان هنالك مرقد السيدة زينب الذي اجتذب العشرات من السياح العرب والأجانب ..
طلبت من فادي ان يساعدني في إيجاد ولو زهرة واحدة أضعها قبلة محبة على قبرك ..
لكنه للأسف لم يفلح في إيجاد زهرة أو بقاياها بين القبور !
واصلنا المسير بين القبور التي بدت حولي كحمائم بيضاء تغطي سطح الأرض الداكن بسكينتها وهي ترقب خطى العابرين ..
أشار لي فادي إن قبرك مسوّر ضمن قطعة أرض بإسم ( آل توفيق القباني) وإنه لايمكنه أن يجلب لي مفاتيح المدفن إلا بعد الحصول على موافقات ووو!
كنت اسمع صوتك الذي صاح احتجاجا بوجه الأسوار التي وضعوها لك .. أنت الذي قضيت حياتك تنادي بالحرية والشمس ..
عند أسوار المدفن وقفت ..
حط القلب فوق بياض قبرك ورحت انشد ترانيم الفجيعة فوقه كالأمهات المفجوعات .. لكني
لم أكن مفجوعة برحيلك …
بل كنت أقول لك معاندة ذلك الوجع الذي ينغرس في قلبي وأنا أهمس لك بنشيجي : نم يا نزا ر في حظن بلقيس الرواي من جديد ..
إرجع الى حظن أمك التي ترقد بجانبك ..
أسدل ستائر الفجيعة على المشهد الأخير وعانق إبنك توفيق الذي زرع في حدائق عمرك اولى الغصات والنكبات ..
أغلق نوافذ إنصاتك عن عالمنا العربي الذي اوحل في الهزيمة وهو يدون في تأريخه الهزائم نكسة تلو أخرى ..
وهاهي هدباء تلتحق بك أخيرا لتكمل لك حكاية الهزائم ..
فارقد يانزار في حضرة أحبتك .. واغمض عينيك عن شاشة وجودنا ..
كانت روحي تهفو لعناقك ..
لغمرك بزهور فشلت في إحضارها لك..
لكن معجزة لقاءك كانت ترمي بظلالها علي وأنا ارى طفلين صغيرين يتمشيان بالقرب مني وهما يحملان زهورا طبيعية بيضاء وحمراء !
طار القلب من مكانه وأنا الحق بهما لأغمر قبرك بالزهور ..
كانت أصابعي تختار لك أجمل الزهور وأكثرها أناقة…
كان الطفلين يشاركاني لهفتي وسعادتي وهما يساعداني في اختيار الزهور ..
وحملت لك الزهور ..
معجزة وجودك وروحك التي استشعرتها في كل التفاصيل التي تحيط بي ..
لم تقف الأسوار بيننا … كما لم تخذلني المسافات …
تسللت يدي من بين الأسوار لتهذرب إليك الورود التي تحب ..
سألت فادي إن كان ثمة من يزورك
فقال أن هنالك من سبقني إليك قبل فترة من أقرباء بلقيس الراوي حيث جائوك من العراق أيضا
إبتهج القلب وأنا أراك محفوفا بمحبتنا العراقية ..
وضعت الزهور لك وغبت في بكاء صامت لم يشهده أحد سواك …
كنت أبكيك فرحا وشوقا ..
حزنا ولوعة ..
إنتظارا وأملا
…
على شاهدة قبرك علّقت آخر الدمعات وغبت في مناظرة صامتة رددت فيها كلماتك التي حفظتها عن ظهر قلب .. أنا التي تزعم دوما أن ذاكرتها مثقوبة ..
كان المغيب يرمي بستائره فوق عناقنا ..
ذلك العناق الذي توقف فيه الزمن
عند ضحكة عينيك
تلك الضحكة التي كانت تنتظرني … في مقبرة باب الصغير.
———————–
كاتبة وإعلامية عراقية
rasha200020@yahoo.com