عندما كنت صغيرا الهو وامرح مع اقراني في تلك القرية النائية في اقاصي جنوب الجنوب (الفاو الجنوبي)،اذا اشتد بي العطش اهرع الى الساقية القريبة من مكان لعبنا لأغترف ماءً زلالا عذبا،كان الماء يأتي من النهر الذي يحد حوزنا (حوز ابو حويدر) ــ في الفاو الارض المحصورة بين نهرين تسمى حوزا ) ــ وماعليك الا ان تسير من مركز الفاو باتجاه الجنوب حتى تعرف انك تعبر حدائق غناء من اشجار وفواكه واعناب..طبعا كان هذا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي،الماء يجري جنوبا باتجاه البحر..ماء عذب زلال لاتوجد فيه سوى الاسماك وبعض الفواكه والاخشاب والحاجيات التي ترميها المراكب والسفن الداخلة والخارجة تخلصا من ثقل حمولتها احيانا..كنا نسبح ونلعب في الشط الذي كان يزهو بالزوارق والابلام والمراكب والسفن الكبيرة والصغيرة ،لم يكن ماؤه خابطا ابدا..كان صافيا جدا وهناك خط فاصل في منتصفه ماؤه خابط،انه المنتصف او خط (التالوك)…نشرب من ماء النهر او الساقية او الشط طبعا ــ نغترف الماء بكلتي يدينا ــاو نكرعه من النهر مباشرة اذ ننحني على ضفته ونشرب…او عندما نسبح ونغوص في اعماقه،وكنا نسقي المزروعات ايضا..كانت الارض خضراء مزهرة بما لذ وطاب من خضار وفاكهة..انواع الخضروات تشاهدها وانت تسير بين بساتين النخيل،وانواع الحشائش تبصرها على ضفتي النهر(بربين،خباز،جولان،بردي….الخ)..كانت الخضرة في كل مكان والنخيل مزهوا بعذوقه..كأنها مزهريات..العذوق التي تحوي (خلالا،رطبا،تمرأ) اجمل منظر للنخيل في موسم الخلال والرطب….يا الله كم هي عمتنا جميلة في تلك الساعة؟!..الحيوانات تسرح وتمرح هنا وهناك شبعانة ومرتوية لاتشكو من قلة اكل ولاماء..كل شيء متوفر بغزارة ..الخضرة والماء وحتى الوجوه كانت نظرة لصفاء قلوبها وابدانها….ولكن ما الذي حصل لهذه الارض؟!…الارض الطيبة التي سكنتنا نحن الابناء المتوارثين طيبتها دائما..منذ عام 1980 وليوم الناس هذا وهي تبكي…تنزف..تتعذب..تتأوه..بل تصرخ وتئن من كل شيء حل بها..خراب في خراب..هجرها الاهل اول الامر هربا من الموت اثر الحرب الرعناء التي افتعلها الارعن الفاشي مع الجارة ايران..تغيرت ملامحها ولم تعد مثلما كانت في سابق عهدها ..اين النخيل والاعناب والخضروات؟؟؟؟؟ ظل النخيل مقطوع الرؤوس والاعناب يبست اغصانهاوالارض صارت سبخة لكثرة الملوحة..تغير ماء الشط..صار خابطا ومليئا بالاوحال والاطيانوالفطائس..مات الزرع ونشف الضرع لقلة الماء العذب ان وجد اصلا….ولملوحة ماء الشط بالتأكيد…ماء الشط غدا ملحا اجاجا لايستسيغه النبات والحيوان ..فكيف بالانسان؟!..محاولات جرت في العامين الماضيين لتلافي الملوحة دون جدوى..ما الذي تغير وصار شطنا الجميل ومكان لهونا ولعبنا وسباحتنا مالحا؟؟!!آه ياشط العرب …آه ايها الجميل الذي سكن احلامنا وظل يسافر معنا انى ارتحلنا..كيف صرت الان؟؟نحن ابناء الماء صرنا نبكي عليه..ونحن سدنة النخيل صرنا نتلهف على خلاله ورطبه..ونحن عرابي الفواكه والخضر صرنا نستوردها معلبة..ما الذي حل بنا؟؟؟؟وهنا اردد قول الشاعر محمود درويش ( عندما كنت صغيرا وجميلا ..كانت الوردة داري ،والينابيع بحاري/صارت الوردة جرحا…والينابيع دما….) .
مقالات ذات الصلة
14/10/2024