ان العراق الجديد الذي يحتاج الى ثقافة جديدة، لا بد ان تعتمد التغيير الذاتي اولا.
هذا ما اتفقنا عليه في الحلقات الماضية من هذه القراءة.
وقلنا، بان من الثقافات التي يحتاجها العراق الجديد، هي؛
اولا: ثقافة الحياة
ثانيا: ثقافة التعايش
ثالثا: ثقافة المعرفة
رابعا: ثقافة الحوار
خامسا: ثقافة الجرأة
سادسا: ثقافة الحب
سابعا: ثقافة النقد
ثامنا: ثقافة الحقوق
تاسعا: ثقافة الشورى
عاشرا: ثقافة الاعتدال
حادي عشر: ثقافة الوفاء
ثاني عشر: ثقافة المؤسسة
ثالث عشر: ثقافة الحاضر
رابع عشر: ثقافة المسؤولية
خامس عشر: ثقافة الشفافية
سادس عشر: ثقافة الانجاز
سابع عشر: ثقافة القانون
ثامن عشر: ثقافة الانفاق
تاسع عشر: ثقافة الدعاء
عشرون: ثقافة الفرصة
واحد وعشرون: ثقافة العدل
سمعنا كثيرا وقرانا اكثر عن الحاكم الظالم، والسلطة الجائرة، والزعيم الذي لا يعدل بين الرعية، ولكننا، ربما، لم نسمع او نقرا عن مجتمع ظالم، فهل هناك مجتمع ظالم بالفعل؟ وما هي صفاته؟ وكيف يعيش؟ ومن يظلم من في مثل هذا المجتمع؟ وكيف؟ ولماذا؟ والنتيجة؟.
لغويا، فان الظلم يعني (وضع الشئ في غير موضعه) و (العدول عن الحق) و (الميل عن القصد) وان اصل الظلم الجور ومجاوزة الحد، وهو نقيض العدل.
واذا كان الله تعالى يامر {بالعدل والاحسان} كما في قوله عز وجل {يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} و {يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} و {الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون} فانه عز وجل يعاقب على الظلم والجور في الدنيا قبل الاخرة، فلقد وصف امير المؤمنين عليه السلام هذه الحقيقة بقوله {وسينتقم الله ممن ظلم، مأكلا بمأكل، ومشربا بمشرب، من مطاعم العلقم، ومشارب الصبر والمقر، ولباس شعار الخوف، ودثار السيف} لان الظلم ثلاثة، كما ورد في حديث رسول الله (ص) الذي يقول فيه {الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله.
فاما الديوان الذي لا يغفره الله، فالشرك، قال الله تعالى: (انه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة).
واما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه، او صلاة تركها، فان الله يغفر ذلك ويتجاوز ان شاء الله.
واما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا، فظلم العباد بعضهم بعضا، القصاص لا محالة}.
فيما ورد في الحديث القدسي عن الله عز وجل بنفس المعنى مصحوبا باغلظ الايمان، بقوله {وعزتي وجلالي لانتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولانتقمن ممن راى مظلوما فقدر ان ينصره فلم ينصره}.
ولقد قرانا وسمعنا عن مصاديق كثيرة لهذه المعان عبر تاريخ البشرية، منها على سبيل المثال لا الحصر، قصة فرعون الذي انتقم الله تعالى منه امام الملا ليكون عبرة، كما في قوله عز وجل في محكم كتابه {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وان كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون}.
كما اننا راينا بام اعيننا كيف انتقم الله تعالى من الطاغية الذليل صدام حسين على جرائمه بحق العراقيين الذين سامهم سوء العذاب، بل انه انتقم من كل عائلته وزبانيته ومن كل من اعانه على الظلم.
هذا في الدنيا، اما في الاخرة فالى جهنم وبئس المصير، وسينزل الله تعالى نفس النهاية بمن ولاهم امور العراقيين من بعده ثم لم يتعظوا بمصير الطاغية، فاعادوا كرة الظلم والعدوان والجور على العراقيين، لانهم غفلوا عن آيات الله تعالى، ولكم كنت اتمنى ان يضع المسؤولون في الدولة العراقية الجديدة صورة الطاغية الذليل لحظة اخراجه من الحفرة وهو فاغر فاه كالبقرة، وراء ظهورهم في مكاتبهم الرسمية ليتذكروا مصير الظالم، كلما نظروا الى الصورة، فيرحموا انفسهم فيعدلوا.
ان الظلم اسرع الاسباب لنزول نقمة الله تعالى، فاذا كان الظالم فردا انزل الله تعالى نقمته عليه بشكل شخصي، اما اذا كان الظالم جماعة (مجتمعا) فان الله تعالى ينزل عليه نقمته بصورة جماعية، فيعم الخراب والدمار كل المجتمع، والعياذ بالله، كما حصل ذلك لاقوام خلت ومجتمعات انتهت لما ظلمت كلها، كما في قوله عز وجل يتحدث عن قوم صالح (ثمود) الذين امتحنهم بالناقة {فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها* ولا يخاف عقباها} او في قوله عز وجل يتحدث عن قصة قوم نبيه لوط عليه السلام {فلما جاء امرنا جعلنا عاليها سافلها وامطرنا عليها حجارة من سجل منضود}.
لقد حذر الله تعالى من الظلم في العديد من الايات الكريمة، في محاولة منه لتجنيب عباده نقمته، رحمة بهم، فلقد قال عز وجل {والله لا يهدي القوم الظالمين} {والله لا يحب الظالمين} {انه لا يفلح الظالمون} {بل الظالمون في ضلال بعيد} {ان الظالمين لفي شقاق بعيد} {قيل بعدا للقوم الظالمين}.
اما في الحديث الشريف واقوال ائمة اهل البيت عليهم السلام فلقد ورد التحذير من الظلم في العديد منها، كما في قول رسول الله (ص) {بين الجنة والعبد سبع عقاب، اهونها الموت، قال انس: قلت يا رسول الله فما اصعبها؟ قال: الوقوف بين يدي الله عز وجل اذا تعلق المظلومون بالظالمين} وعن امير المؤمنين عليه السلام {الظلم ام الرذائل} {الظلم في الدنيا بوار وفي الاخرة دمار} {الظلم يزل القدم ويسلب النعم ويهلك الامم} {من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده} {بئس الزاد الى المعاد، العدوان على العباد} اما الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فقد قال {نهى رسول الله (ص) ان يؤكل ما تحمل النملة بفيها وقوائمها}.
ولكل ذلك فلقد كان امير المؤمنين عليه السلام يتميز بحساسية مفرطة من الظلم، وهو القائل {والله لان ابيت على حسك السعدان مسهدا، او اجر في الاغلال مصفدا، احب الي من ان القى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشئ من الحطام، وكيف اظلم احدا لنفس يسرع الى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها؟} او في قوله عليه السلام {والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها، على ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وان دنياكم عندي لاهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل، وقبح الزلل، وبه نستعين}.
ترى، كيف يتجرا اذن من يدعي انتمائه لمدرسة علي بن ابي طالب عليه السلام على ظلم عباد الله تعالى في بلاد الرافدين؟ كيف يتجرؤون على سرقة المال العام واستلام الرشاوى والتورط بالفساد المالي والاداري؟ اين القيم والمبادئ اذن؟ اين التربية العلوية التي يقولون بانهم تشبعوا بها تحت منابر سيد الشهداء عليه السلام؟ كيف يتجراون على سرقة لقمة العيش من فم اليتيم والارملة والعاجز؟ كيف يجيزون لانفسهم التمتع بالهواء البارد والماء المثلج في حر الصيف فيما يتضور المواطن الما وحسرة في ظل انعدام الطاقة الكهربائية وغياب الماء الصالح للشرب؟ وهل ينتظرون بعد كل هذا الظلم ان يوفقهم الله تعالى للتي هي اقوم؟ وقد قال رسول الله (ص) {لا يخدع الله عن جنته}؟.
لقد رفض امير المؤمنين عليه السلام، وهو آنئذ الحاكم الاعلى لخمسين دولة، رفض ان يزيد من عطاء شقيقه مدا من الطعام لانه يعتبر ذلك عدوان على حق الناس، وهو القائل يصف الامر {والله لقد رايت عقيلا وقد املق حتى استماحني من بركم صاعا، ورايت صبيانه شعث الشعور، غبر الالوان، من فقرهم، كانما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكدا، وردد علي القول مرددا، فاصغيت اليه سمعي، فظن اني ابيعه ديني، واتبع قياده مفارقا طريقتي، فاحميت له حديدة، ثم ادنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من المها، وكاد ان يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل، يا عقيل، اتئن من حديدة احماها انسانها للعبه، وتجرني الى نار سجرها جبارها لغضبه؟ اتئن من الاذى ولا ائن من لظى؟}.
كيف نريد، نحن العراقيون، ان يرحمنا الله تعالى وينزل علينا شآبيب رحمته اذا كان المجتمع ظالم كله؟ يظلم بعضه بعضا؟ فالحاكم يظلم المحكومة بالعدوان على حقوقه وتضييع الفرص عليه، والمحكوم يظلم الحاكم بنشر الاخبار الكاذبة ضده ويبث الاشاعات هنا وهناك من دون دليل؟ والفرقاء السياسيين يظلم بعضهم بعضا بالتسقيط والتشهير والتهم الظنية والاكاذيب والاقاويل التافهة؟ والعالم يظلم الناس باكله حقوقهم، والناس يظلمون العالم بتجاهلهم له وعدم الاكتراث بعلمه ومعارفه؟ وفي العائلة الواحدة يظلم افرادها بعضهم بعضا، فالزوج يظلم زوجته، والزوجة تظلم زوجها، والوالدان يظلمان الاولاد والاولاد يظلمون الابوين، والعائلة تظلم جيرانها، والجار يظلم بعضهم بعضا، والصديق يظلم صديقه، والمعلم يظلم طلابه والطلاب يظلمون المعلم، والسياسيين يظلمون الاعلاميين والاعلاميين يظلمون السياسيين، وهكذا في دورة متكاملة من الظلم متورط بها كل المجتمع، ثم ننتظر الرحمة الالهية والفرج القريب، وننتظر ان يزيل الله تعالى هذه الغمة السوداء من فوق رؤوسنا ويزيحها عن سماء بلدنا؟ كلا والف كلا، فالمجتمع الظالم لا يستحق الرحمة، او لم يقل امير المؤمنين عليه السلام {الظلم يزل القدم، ويسلب النعم، ويهلك الامم} وهذا ما يحصل اليوم على وجه الدقة في بلاد الرافدين.
تعالوا، ايها العراقيون، نعيد النظر في كل علاقاتنا الاجتماعية ونحن نعيش في رحاب شهر الله الفضيل رمضان المبارك، تعالوا لنصفي حساباتنا مع الناس، فنرد المظالم ونقرر ان لا نكررها، لنزيل الظلم عن المجتمع شيئا فشيئا، وليبدا كل واحد منا من نفسه وذاته، فلا يقولن احد منا ليرفع فلان الظلم عني لارفعه عن غيري، او يقول اذا كان كل المجتمع ظالم فما فائدة ان اكون عادلا في وسط مجتمع ظالم؟ ابدا، قرر ان تبدا برفع الظلم الذي تمارسه ضد الاخر مهما كان صغيرا، لتضمن رحمة ربك لنفسك على الاقل، او لم يامرنا الله تعالى بالعدل وعدم الظلم في كل الاحوال، حتى اذا ظلمنا الاخرون؟ اولم يقل في محكم كتابه الكريم {ولا يجرمنكم شنآن قوم على الا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى} اولم يامرنا امير المؤمنين عليه السلام بالعدل مع العدو والصديق كما في احدى وصاياه لابنه السبط الحسن بن علي عليهما السلام {اوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر…وبالعدل على الصديق والعدو}؟.
انت ايها المسؤول الذي تورطت في سرقة المال العام، قرر ان تعيده الى بيت المال اللحظة قبل الفضيحة، وانت ايها المسؤول الذي ارتكبت فسادا اداريا فاخذت رشوة على معاملة او عينت اقاربك في موقع لا يستحقه، قرر على الاقل ان لا تكرر ارتكاب مثل هذه الجريمة، وانت ايها المسؤول الذي تعرقل معاملات الناس، قرر من اليوم ان تسهل امورهم بكل ما اوتيت من حول ومن قوة ومن تصميم وارادة.
وان مبتدا العدل يقوم على الاسس التالية:
اولا: ان نتيقن بان العدل هو الطريق الوحيد للنجاح، فالظلم فشل وان تراآى لنا نجاحا كاذبا، ولقد اشار امير المؤمنين عليه السلام الى هذه الحقيقة بقوله {العدل اساس به قوام العالم} وقوله {العدل قوام الرعية وجمال الولاة} وليس هناك شئ يستعاض به عن العدل لمن اراد ان يحقق اهدافه ابدا، فلقد قال امير المؤمنين عليه السلام {انه ليس في الجور عوض عن العدل} لان (النجاح بالظلم) بمثابة نجاح على حساب الاخرين وحقوقهم، ولذلك فان الله تعالى لا يحقق مراد من سعى للنيل من الاخرين وحقوقهم من اجل ان يحقق نجاحا ما، فمثل هذا النجاح ملوث بحقوق الاخرين الذين حرموا منها لتستفيد منها انت، ولطالما اوصى امير المؤمنين عليه السلام عماله بالعدل باعتباره الاساس الذي يحققون فيه نجاحاتهم، كما في قوله عليه السلام لزياد بن ابيه وقد استخلفه لعبد الله بن العباس على فارس واعمالها {استعمل العدل واحذر العسف والحيف، فان العسف يعود بالجلاء، والحيف يدعو الى السيف}.
ان العدل واسع جدا يمنحك الفرصة الكاملة لتحقيق اهدافك النبيلة فلماذا تلجا الى الظلم والعدوان على حقوق الاخرين لتحقيقها؟ فقلد وصف امير المؤننين عليه السلام سعة العدل بقوله {ان في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه اضيق}.
والعدل اشرف الخصال وافضلها، فهو قوام الدين والدنيا، فعندما سئل امير المؤمنين عليه السلام عن اي الخصلتين افضل، العدل او الجود، اجاب بقوله {العدل يضع الامور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها، والعدل سائس عام، والجود عارض خاص، فالعدل اشرفهما وافضلهما}.
ثانيا: ان العدل يبدا من النفس اولا، ثم يعم في المجتمع، ولذلك ينبغي علينا ان نتحاشى الظلم ونسعى لتحقيق العدل في علاقاتنا الاجتماعية واحكامنا على الاخرين.
وان اول الظلم اتباع الهوى، والى هذا المعنى اشار امير المؤمنين عليه السلام بقوله في كتاب بعثه الى الاسود بن قطبة صاحب جند حلوان {اما بعد، فان الوالي اذا اختلف هواه منعه ذلك كثيرا من العدل، فليكن امر الناس عندك في الحق سواء}.
ثالثا: ولتحقيق العلاقات السليمة الخالية من الظلم مع الاخرين، ينبغي على كل واحد منا ان يجعل من نفسه ميزانا في هذه العلاقات، فاذا كنت تحب ان لا يظلمك السلطان وانت في المعارضة، اسع لان لا تظلم المعارضة عندما تكون في السلطة، واذا كنت تميل الى ان يصغ اليك الاخرون وانت تتحدث، فاسع اولا لان تصغ الى الاخيرين عندما يتحدثون، واذا احببت ان يتفهمك الناس عندما تتكلم فلا يحملوا كلامك ما لا تقصده او اكثر مما يتحمل، فاسع اولا لان لا تحمل كلام الناس اكثر مما يقصدون، وهكذا، ولقد اوصى امير المؤمنين عليه السلام ابنه الامام الحسن المجتبى بالالتزام بهذه القاعدة الذهبية بقوله {يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب ان تظلم، واحسن كما تحب ان يحسن اليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وان قل ما تعلم، ولا تقل ما تحب ان يقال لك} فاذا كنت كثير الشك بالناس لا تنتظر منهم ان يصدقوك عندما تتحدث، واذا كنت خبيثا في علاقاتك مع الاخرين فلا تنتظر منهم ان يعاملوك بلطف ومودة، واذا كنت متجاوزا على حقوقهم فلا تنتظر ان يصونوا حقوقك، واذا كنت في موضع الشك والريبة والغيبة فلا تنتظر من الناس ان يحسنوا الظن بك.
رابعا: ان نسعى لرد المظالم يوما بيوم فلا ندعها تتراكم فنستحي من ردها او تاخذنا العزة بالاثم، فلقد ورد عن امير المؤمنين عليه السلام قوله {لا عدل افضل من رد المظالم} ومن اجل التمثل بهذه القاعدة علينا ان نستشعر الظلم ثم نخافه لنتجنبه، يقول امير المؤمنين عليه السلام {رحم الله عبدا استشعر الحزن وتجلبب الخوف}.
ان الاستخفاف بالظلم الصغير يجرؤنا على ارتكاب ما هو اعظم منه، فالظلم ذنب يجب ان لا نستخف به او نستحقره لحجمه، وانما يجب ان نبني موقفنا منه بما هو ظلم او ذنب، يقول امير المؤمنين عليه السلام {اشد الذنوب ما استخف به صاحبه}.
خامسا: قد يسال المرء، ومن هو العادل لنتقمص شخصيته في المجتمع، فلا نظلم ولا نعتدي ولا نتجاوز على حقوق الاخرين؟.
لقد سئل الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن صفة العدل من الرجل؟ فقال عليه السلام: اذا غض طرفه من المحارم، ولسانه عن المآثم، وكفه عن المظالم.
وعن رسول الله (ص) انه قال يصف العادل {من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروته، وظهرت عدالته، ووجبت اخوته، وحرمت غيبته}.
وعن الصادق يصف العادل بقوله {ثلاث من كن فيه اوجبن له اربعا على الناس: من اذا حدثهم لم يكذبهم، واذا خالطهم لم يظلمهم، واذا وعدهم لم يخلفهم، وجب ان يظهر في الناس عدالته ويظهر فيهم مروته، وان تحرم عليهم غيبته، وان تجب عليهم اخوته}.
كما ورد عن الرسول (ص) قوله {من صاحب الناس بالذي يجب ان يصاحبوه كان عادلا}.
وعنه (ص) ما كرهته لنفسك فاكرهه لغيرك، وما احببته لنفسك فاحبه لاخيك، تكن عادلا في حكمك، مقسطا في عدلك، محبا في اهل السماء، مودودا في صدور اهل الارض}.
واخيرا قول امير المؤمنين عليه السلام {من طابق السر علانيته ووافق فعله مقالته فهو الذي ادى الامانة وتحققت عدالته}.
سادسا: هناك مجموعة من القواعد التي يستعان بها على العدل، منها مثلا:
الف: قول امير المؤمنين عليه السلام {استعن على العدل بحسن النية في الرعية، وقلة الطمع وكثرة الورع} فسوء الظن بالناس تنمي في نفوسنا الشك والتهمة، ما يشيع بيننا الظلم والعدوان والتجاوز على الحقوق، كما ان الطماع لا يقف عند حد فيندفع للتجاوز على حقوق غيره، كما ان مخافة الله عز وجل في السر والعلانية تقف حائلا بين الانسان وظلم الاخرين، فلو ان المسؤول في الدولة مثلا يخاف الله تعالى لا يسرق من المال العام، ولو انه يخاف ربه لما مد يده على الحصة التموينية او مساعدات شبكة الحماية الاجتماعية التي خصصتها الدولة للفقراء والمعوزين والمستضعفين.
باء: قوله عليه السلام {فاذا ادت الرعية الى الوالي حقه، وادى الوالي اليها حقها عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على اذلالها السنن، فصلح بذلك الزمن، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الاعداء، واذا غلبت الرعية واليها، او اجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الادغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الاحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الابرار، وتعز الاشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد}.
بالله عليكم، اولم يحكي هذا النص العظيم حالنا اليوم في العراق؟ انظروا الى كل هذا الظلم بين الناس، ما عطل الحقوق وامات الكرامات وضيع المستقبل.
سابعا: ولتحقيق العدل وازالة الظلم من المجتمع، علينا جميعا ان نتناصح ونتعاون فيما بيننا، فالعدل لا يقيمه فرد وانما هو مسؤولية تشاركية، صحيح انها تبدا من الانسان نفسه، ولكنها لا تنتهي عنده ابدا، ولذلك مثلا نقرا في قصص الانبياء الذين كانوا يمثلون قمة العدل في مجتمعاتهم، عندما كانوا لا ينجحون في اقناع الناس بالتزام جانب العدل والابتعاد عن الظلم، كانوا يهجرون مجتمعاتهم خشية العقاب الالهي الذي عندما ينزل على مجتمع من المجتمعات الظالم لا يميز بين الناس والعياذ بالله، اولم يوحي رب العزة والجلال الى احد انبيائه انه مهلك من قومه مئة الف، ستون من الاشرار واربعون من الاخيار، فسال النبي ربه بقوله: يا رب هؤلاء الاشرار فما بال الاخيار؟ قال رب العزة: لان الاخيار لم ياخذوا على يد الاشرار عندما ظلموا وتجاوزوا الحدود.
لا بد اذن من ان نتعاون على اقامة العدل وابعاد الظلم عن المجتمع، والى ذلك يقول امير المؤمنين عليه السلام {عليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه، فليس احد، وان اشتد على رضى الله حرصه وطال في العمل اجتهاده، ببالغ حقيقة ما الله سبحانه اهله من الطاعة له، ولكن من واجب حقوق الله على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على اقامة الحق بينهم، وليس امرؤ، وان عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته، بفوق ان يعان على ما حمله الله من حقه، ولا امرؤ، وان صغرته النفوس واقتحمته العيون، بدون ان يعين على ذلك او يعان عليه}.
ثامنا: ان القاعدة الذهبية التي يجب ان تكون الحاكمة في علاقاتنا الاجتماعية قول امير المؤمنين عليه السلام {في حقوق لم افرغ من ادائها، وفرائض لا بد من امضائها} ما يعني ان الانسان في المجتمع يجب عليه ان يتهم نفسه دائما بالتقصير في انجاز واجباته، والقصور في اداء حقوق الاخرين، ما يدفعه دائما الى ان يجتهد في اداء الحقوق وانجاز الواجبات، فلو ان الدولة تفكر بهذه الطريقة لما قصرت في انجاز مهامها، كما لو ان الرعية تفكر بهذه الطريقة كذلك، لما قصرت في واجباتها ازاء الدولة، او بين بعضها البعض الاخر.
المشكلة هي ان المسؤول ينتظر ان نثني عليه في انجاز لم يحققه بعد، والمواطن يستعجل الانجاز في ظرف لم يكتمل بعد، وان الناس لا تصبر بعضها على بعض، او ان كل واحد منهم يتصور بانه الطالب لغيره والاخرين مطلوبين له، ولذلك يظلم بعضهم بعضا ويتجاوز بعضهم على حقوق البعض الاخر، وهنا مكمن الخطا او الخطيئة.
تاسعا: قد يسال احدنا ويقول: كيف لي ان اعرف ما اذا كنت ظالما ام مظلوما؟.
ان الاية المباركة التي تنص على ان {بل الانسان على نفسه بصيرة* ولو القى معاذيره} تجيب على هذا التساؤل بكل وضوح، فليس بالضرورة ان يطاردك القضاء لتعرف ما اذا كنت قد سرقت من المال العام ام لا؟ كما انه ليس بالضرورة ان تصدر بحقك مذكرة اعتقال او تستدعى للمحكمة لتتاكد ما اذا كنت قد ظلمت زوجك او زوجتك او اولادك او ابويك او صديقك او جيرانك او طلابك او اساتذتك او اي انسان آخر، فانت اعرف من اي احد آخر بحقيقة حالك فتعرف افضل من غيرك ما اذا كنت ظالما ومتجاوزا على حقوق الاخرين، لصا سارقا للمال العام، مزورا وغاشا للحقيقة او مفتريا على الاخرين بما ليس فيهم، ام لا؟.
فمثلا، عندما تتحول الى بوق لاخبار المغرضين والمرجفين والمتصيدين بالماء العكر، فتنقل اخبارهم قبل ان تتاكد من صحتها وتروج لمعلوماتهم قبل ان تتثبت، او لست ظالما في هذه الحالة على الاقل لمن سيتضرر بمثل هذه الاخبار وتتشوه سمعته، ولمن سيصدق بها ويتاثر بنتائجها؟.
عاشرا: سؤال آخر يقفز في الذهن مؤداه التالي، لماذا يظلم الانسان اخاه الانسان؟.
اعتقد ان البداية تكون عادة عندما ينسى المرء نفسه، فينسى من اين هو والى اين؟ ماذا كان وماذا هو عليه الان؟ فاذا نسي حقيقته وواقعه طغى وتجبر ظنا منه بان اللحظة التي هو فيها انما هي نهاية العالم، او ان الفلك لن يدور بعد الان فلا زال هو الان في القمة فسيبقى فيها الى ان تقوم الساعة، ناسيا او متناسيا بان الدنيا دول وهي يوم له ويوم عليه، وان الانسان، اي انسان، كما يدين يدان، فينسى مثلا كيف ولماذا وصل الى السطة؟ ومن الذين حملوه اليها، اذا به يتصور بانه انما وصل الى ما وصل اليه اليوم انما بعقليته الخارقة وذهنه الوقاد وحيله البارعة، وبذكاء مستشاريه وخططهم الجهنمية، فتراه يطير التهم والافتراءات يمينا ويسارا ضد حتى من حمله الى السلطة، ايا كان، او انه ينسى كيف حصل على كل هذه الثروة فتراه يطغى بها فلا يعتد بفقير ولا يسال عن يتيم، وهو يردد {انما اوتيته على علم عندي}.
ان الفخر الذي سببه نسيان المرء لواقعه، اول اسباب الظلم، ولذلك يذكر امير المؤمنين عليه السلام عباد الله بواقعهم في قوله {ما لابن آدم والفخر، اوله نطفة، وآخره جيفة، ولا يرزق نفسه، ولا يدفع حتفه}.
ولا ننسى هنا ما للجهل من دور في ممارسة الظلم والعدوان على الاخرين، فعندما يجهل الانسان مثلا قيمة الاخر تراه يصدق بحقه كل كذبة او تهمة، واذا جهل الوالدان واقع ابنائهم، من بنين او بنات لا فرق، تراهما يستعديان الفرصة ويحرمانها من حظ اولادهم، فيظلموهم، واذا جهل المرء بالقواعد الشرعية للبيع والشراء، ظلم الناس في الميزان والمكيال وغير ذلك، والى هذه الحقيقة يشير امير المؤمنين عليه السلام بقوله {الناس اعداء ما جهلوا} او في قوله {من اتجر بغير فقه فقد ارتطم بالربا}.
حادي عشر: يعتقد بعض الظالمين بانهم اذا افلتوا من العقاب العاجل فهذا يعني بان الله تعالى قد غفر لهم، او ان بامكانهم ان يكرروا ظلمهم مرة اخرى، فعدم الوقوع في مصيدة القانون (الالهي) دليل على النجاح ودافع لتكرار الظلم، بحسب رايهم، وهذا خطا كبير جدا ينبغي ان لا يقع فيه الظالم، لان الله تعالى اذا ما امهل الظالم مرة او عدة مرات فهذا يعني انه يريد ان ياخذه اخذ عزيز مقتدر، بعد ان يملأه بالخطايا من قمة راسه الى اخمص قدميه، حتى لا يكون له على الله حجة، فليس معنى ذلك انه عز وجل قد غفل عنه او اهمله ابدا، ولذلك ورد في الحديث الشريف {ان الله يمهل ولا يهمل} فلو ان الله تعالى قد اخذ، مثلا، على يد الطاغية الذليل صدام حسين لحظة ارتكابه اول ظلم ضد العراقيين، فهل كان سياخذه كما اخذه بعد 23 عاما من الظلم والجور والطغيان؟ بالتاكيد كلا، ولذلك فان على الظالم ان ينتبه الى حلم الله تعالى والى رحمته، فلا يسترسل مع الظلم ويعاود الجور، ولقد وصف عز وجل هذه الحقيقة بقوله في محكم كتابه الكريم {ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خيرا لانفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين} فاملاء الله تعالى للظالم دليل عدم حبه لهذا العبد، اما اذا اخذ على يديه بسرعة فهذا دليل اما على حب الله لعبده ولذلك اخذه بظلمه بسرعة لينبهه فلا يكرر الظلم او يسترسل مع الجور، او ان الظلم الذي ارتكبه عظيم جدا بحق عبد ضعيف مستضعف لم يجد غير الله تعالى ينتقم له من ظالمه، ولذلك يعجل الله تعالى انتقامه في هذه الحالة.
كما ان بعض الظالمين يبررون ظلمهم وجورهم لعباد الله تعالى بقولهم، لو كنا ظالمين لعجل الله تعالى علينا العذاب، او انهم يدللون على حلم الله تعالى بصحة ما يفعلون، او بحب الله لهم، كما كان الرئيس العراقي الاسبق احمد حسن البكر يقول ذلك كلما نجا من محاولة ازاحته ونظامه عن السلطة في بغداد، ناسين هؤلاء الظالمين او متناسين قول الله عز وجل {ويستعجلونك بالعذاب ولولا اجل مسمى لجاءهم العذاب ولياتينهم بغتة وهم لا يشعرون} فالله تعالى اعلم بعباده من انفسهم، وهو عز وجل لا يحتاج من يعلمه ما عليه ان يفعل ومتى واين؟ وهو القائل {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} او في قوله {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}.
ثاني عشر: اخيرا فان اعظم الظلم، هو الذي يرتكبه الراعي ضد رعيته، والحاكم ضد شعبه، والسلطان ضد الناس، وبكلمة هو ظلم صاحب اليد العليا بحق صاحب اليد السفلى، ولذلك ورد في الحديث الشريف {اعظم الخيانة خيانة الامة} والظلم قمة الخيانة، فعندما يمنح الشعب مجموعة من المرشحين ثقتهم ليجلسوا تحت قبة البرلمان ثم لا يؤدوا واجباتهم فان ذلك ظلم وخيانة ما بعدها خيانة لان هؤلاء، في هذه الحالة، خانوا الامانة وفرطوا بالثقة واستغلوها ابشع استغلال، فالمرء الذي منحه الناس ثقتهم ليحجز مقعده تحت قبة البرلمان، مسؤول عن مصالحهم ومنافعهم وحياتهم ورفاهيتهم، اذا به يتهالك على مرتبه الشهري قبل ان يجلس على مقعده في البرلمان، فاي ظلم هذا؟ ثم ينتظر ان يوفقه الله تعالى في اداء مهامه وواجباته، فعلى اي ذقن يضحكون؟ وبعقل من يستخفون؟.
10 آب 2010