كان يستقر على بساط برتقالي مزخرف من الصوف ينحني جسده مستندا بعكس يده اليسرى على وسادتين بلونين مختلفين.. وهو يرتدي دشداشة رصاصية بلون سترته.. ويغطي رأسه بكوفية بيضاء زخرفت بمثلثات من خيوط سود تتلاصق من اضلعها ويتوج رأسه بعقال مكورا عباءته الجوزية خلف ظهره… خمسة ازرار على طرف ردنه.. كانت البشرة عميقة السمرة الا ان انفه الافطس ينسبه الى جذر زنجي.. صلبت وجهه الالام والفاقة والخيبات.. انه يمسك قدح الشاي.. يقربه لفمه ويطيل فيه النظر قبل ان يرتشف ملتذا متسلطنا.. ثم يبعده قليلا ويرتشف ثانية مطلقا صوتا مع كل رشفة.. فيما يسند كفه الايسر ساعده الايمن المشعر، نابضة عروقه.. ما الذي يرى في القدح.. ام انها نشوة الشعور بطعم الشاي.. ربما عملوه على حطب او فحم وخدر على مهل.. انه ينتسب لتلك الايام الخوالي قبل ان يستبدلوا الاستكانة بكوب الشاي الزجاج الذي عودهم عليه المصريون وربما لمكعبات السكر الصغيرة.. ربما رأى صورة الزعيم عبد الكريم قاسم عليها او على قدحها الفرفوري.. او ان الاهزوجة ترن باعماق ذاكرته (يا محله الشاي لو رنت الخاشوكة).. كان جواره قرب ركبته باكيت سجائر (سومر).. يظهر انه حلق ذقنه بعناية دون ان يصبغ شاربيه فظهر شيب بين شعرات سود.. حين افرغ القدح رمى بقاياه في القعر لحظتها صدم كأس زجاج فأطار قطعة من اعلاه.. فرن .. نظره بوجوم ثم القى نظرة حزينة محدقا بمن او بما امامه .. عيونه الصغيرة العميقة توحي بطرافته .. بشيء من المكر البسيط ..وقد تهيؤك للضحك قبل اية كلمة او حركة منه .
(لـئـن كــان غـيــري بالـمـدامـة مـولـعـاً
فـقــد ولـعــت نـفـسـي بـشــاي مـعـطـرٍ
إذا صـب فـي كـأس الـزجـاج حسبـتـه
مذاب عقيـق صـب فـي كـأس جوهـرِ
بـــه أحـتـسـي شـهــداً وراحـــاً وســكــراً
وأنـشـق مـنــه عـبــق مـســك وعـنـبـرِ
يغيب شعور المـرء فـي كُـؤُسِ الطـلا
ويصحو بكأس الشـاي عقـل المفكـر
كأني إذا ما أسفر الصبح ميتٌ..
وإن أرتشف كأساً من الشاي احشر
)..
ربما انتهى الان من اكل سمك مشوي على حطب وثلاثة رؤوس بصل ..او تذكر لحظات العيد ايام مراهقته : يتخلى عن جلته وينضم الى ثلاثة من الشبان السود , ويمسك طبلته وهو يدير الدولاب هازجا يا بو الماطور خرّبت النساوين ) وهو يهز عجيزته بمهارة ..
ما حطن شكر من اشرب الشاي
يمر رسمك عليه وكلشي يحله!
طالما تقلد منديل خنجره المعقوف متلثما بكوفية متنقلا بين اشباح النخيل والقناطر والانهار الغاصة بالسمك غير ملتفت لضجة الكلاب خلفه ..(بيك ونيك) كان شعاره الاوحد ..يثمله نقر الدفوف ونكهة الطبول ..
تعرف منديل على مرهون الاسود ..وعمره سبعة عشر عاما ..كلاهما حمال في سوق الخضارة حتى الظهر.. دشداشة وجلة وحفاة . .. بعدها معا امسيات الخمرة .. العرق اللاذع يشربانه بعلب السمن وقصعات الجيش , مزتهم حبوب الرمان او اوراق السدر .. حفلات الغجر في الاعراس…زار القمار في ظل خصاص القصب , الخدمة العسكرية في ربايا الشمال .. شارع بشار لذبح الشهوة ..
دفعهم السكر في ليلة كالحة الى بستان جوهر قرب مرقد ابو الجوزي.. استقلا زورقا تركه صاحبه جوار ضفة نهر .. وجذفا وعادا بجلتين من رطب البرحي ..
عرفه مرهون على ابو فارع الوسخ الخمار في احد الارياف ..وقضوا ليالي خمرية في منزله القمامة تحت السعف في اللحظات المقمرة ورأى مرهون ان زوجة ابو فارع لا تتحرج منهم , تقدم لهم رمانا ولبنا ممزوجا بثوم او ليمون.. وهي تبتسم و تفر الردفين مستعرضة ..بشرتها اقرب للسواد الفاتح وشفتاها غليضتان… امراة يلفضها الفراش وتصد الشهية .. وضعوا مع العرق حبوبا تضاعف السكر لابو فارع حتى انه لو اشتعل لا يحس بعد ان يسكر .. واستدعاها مرهون.. واخذ كل ليلة بعد غيبوبة ابو فارع يتبادل الادوار عليها مع منديل .. يسمع الجيران الاقرب صراخها المدوي وهي تحتهما .
في صباحات الجمعة يجمع من قمامات البيت ما تيسر .. ويبيعها بسوق الجمعة ..وان شح طعام فاسماك من نهر العشار بصنارة وربع عرق ..
بعد زواجه نسفت له امرأته كل رغبة بامرأة اخرى فهي تعصف به كل ليلة حتى كاد يفر.. انها تحطم ثلاثة رجال لو تزوجوها معا الا ان طاقة منديل الجسدية انقذته فملأوا الحي باولاد سود وسمر صاخبين .. حطب للحروب رغم نصفهم الذي نجا ورافد للملاعب ..مع كل بطولة سجلها اولادهما بهجة ومع كل تابوت مرارة فقد ..حتى لم يعودا مباليين بحزن او اسى .
بعد الاقتران اشتغل بنحر العجول والجاموس وتمرس بتقطيع الاوداج ..يستدعى في المآتم والاعراس لينحر لهم متقدما بهيبة مقتدر , سكينته القاسية بقراب معلقة في حزامه الجلدي يسارا والمبرد المجرب على يمينه ..
انه الان شيخ عشيرته .. رجل في الثامنة والخمسين .. مشدود الجسم ..انيقا .. رغم لكنة لافتة في لهجته وروح الطرفة التي لا تفارقه وحركته الراقصة وهزة كتفه وخلفيته النابضة كلما انفرد مع مقربيه او ابتعد عن الانظار.. يتقدم الاولاد والاحفاد يحملون العصي والمرا دي والمجارف ان نشب شجار .. اتقن لعبة الدية وقوانين العشيرة .. وحين تطورت اساليب الصراع تزودوا بالبنادق الرشاشة والمسدسات ..وصنعوا لهم راية مميزة رسموا عليها سيفين متقاطعين واسم القبيلة ..وانشأوا لهم موكب طف يرتدون لاجله زيا موحد ا …وصار منديل يسمى ابو الحيلين . وليس بعيدا ان يكون قد انخرط في حزب ليحمي نفسه في المرحلة التي تتكاثر وتنشطر الاحزاب فيها كالاعشاب الضارة .
كان منديل يعود وهو في العشرين الى منزله في حي البجاري من القرى النائية , ثملا.. وقد انعشته بستات الخشابة وطبولهم ..مرددا : (كسرى بزمانه حكم ….).. لكنه ضل طريقه في الصحراء حين عاد من حفلة في الزبير وقد لعبت الخمرة بجمجمته .. اذا به امام خيمة منفردة … قربها فصيل ماعز وخراف وكلبان …. كان الظلام مهيمنا .. فصاح: (اهل الداار ) …
ــ نعم .. شو تريد ؟
ــ لقد تهت .. وقلت لو تضيفوني حتى الصبح ..
فحدجته امراة طويلة تلف راسها بعصابة سوداء وقد تلفعت بعباءة رجالية رمادية مشربة بصفرة … وتشد وسطها بقطعة قماش مبرومة ..ازدحم وجهها بالوشم .. ثقيلة الجثة .. لها صوت صارم مهيب
ــ اين كنت ؟
ــ في سمر وتهت ..
فحدجته بنظرة متفحصة ..قرات فيه جبنا وليونة .. سهمت قليلا فقالت له .
ــ لا رجل معي .. ستدخل مطيعا ..اقول فتنفذ …
ومشى وراءها .. نحيلا بقامته المتعالية وسمرته المعمقة .. فاجلسته في اقصى الخيمة وشدت حبلا في الاعلى تدلت منه ستارة من بسط الصوف ترتفع قليلا عن الارض , فقسمت المكان الضيق قسمين . رمت اليه الغطاء من تحت الستارة وكوز ماء و حساء في انجانة نحاسية وحليب ماعز .. مع قطع رغيف .. واتت بحطب من اغصان الغضا في طست تفحم فوضعته بينهما على الارض … كل ذلك وهي صامتة … اعولت الريح فامطرت …لقد رأى تعملق الردفين جيدا تحت ضوء القمر والخصر يتكسر يكاد يمزق القطعة المفتولة على وسطها ومشيتها الواثقة .. ولم يكن معتادا على الصمت ولا على البرد القارص .. يسمع سعلة خفيفة منها .. توقعها تناديه ..فاشتد به الاشتهاء .. لكنه كان جبانا .. فقال كمن في حلم :
ــ اااخ ,, لو هي قربي فاحضنها ..
اصغت اليه صامتة وقد تقلص ما بين حاجبيها وجحظت عيناها وغلى فيها الدم .. فقربت العصا الغليضة اليها ..
وبعد صمت قال :
ــ اااه…. احاه , لو بكلتا يدي امسكت الصدر وشربت …. ادفيها كما تشتهي واشمها حتى تتفتت .. ااه .
ــ انها حضن للشتاء , مهرة اصيلة.. اوووف .
لا يصمت الا ليعود متفجرا رغبة راعدة ..كان يتلوى تحت الغطاء .. يتوتر .. يشتعل .. احس بان خيوطا من النار تقفز من جوفه خلال فمه .. ولم يدرك بانها بعد ست ساعات من عروضه قد اشتهت .. تمنت ان تلتهمه .. تضمه بين ركبتيها حتى يتكسر ظهره ..تغليه ببركانها الذي شرع بالتدفق .. تذيبه بحممها .. وتريه طاقة نسائية لم يسمع بها ولن يعود بعدها بعقل ..لقد رحل زوجها بمهمة تهريب منذ شهر وكوتها الرغبة ..وكم تعذر عليها مرور ليلة واحدة بلا ارتواء ..لكنه الان في الفيافي التي تقود للمحمرة .. وربما في بساتين الاهواز وحيدا متخفيا يواجه الذئاب والعطش والدوريات والغربة ..
لكن ضيفها جبان … وهي تحسب اللحظات قرونا وتناجي نفسها (الان يخطو .. ااه … انتظر قليلا .. سيهم).. وتنتظر… وتنتظر, تتضرى اشتهاء وهو يواصل الاغراء ولا يتحرك .
بزغ الصبح فصحا يسعل .. فغادرت المكان ووقفت قرب باب الخيمة ونادت عليه فلما خطا قربها اذا بضربة عصا غليضة على قفاه .. واردفت ..واتت الضربة الثالثة على ظهره.. كاد يتهاوى حاسرا وهو يهرب .. وهي تصيح به : (ايها الكلب العنين.. لا انت اتيت ولا صمت ).