فهد الاسدي : عدن مضاع .. عدن مستعاد
*محمد سهيل احمد/ قاص ومترجم
تزامن انجذابي الأول لفهد الاسدي كاتبا مبدعا مع انبهاري بمجلة ( الكلمة ) اواخر الستينات حين قرأت له على صفحاتها نصا من نصوصه التي اعتمدت اللهجة الهادئة في التناول والالتصاق بالمكان و إبراز ملامحه دون إهمال الشخوص ولا الحركة الديناميكية لكل ثيمة من ثيمات قصصه . واعترف عن صدق أنني قرأت قصص فهد متفرقة هنا وهناك دون الالتفات الى مجموعته المبكرة ( عدن مضاع ) ( * ) مكتفيا بكاريزما ثريا النص الصاعقة ، لا عن قصد إنما كتحصيل حاصل . ما اذكره أيضا لقاءً عابرا جمعني بفهد ابان مهرجان المربد أدركت من خلاله انني امام كاتب جنوبي مكتنز الذاكرة بالمشاهد والصور واللوحات الشعبية ؛ وكائن شديد التواضع ذي عمق مترأري كمياه الهور ، صادق مع نفسه ومع الوسط الذي شكل ذائقته الابداعية . ولقد فوجئت في عام 1974 بقراءة نقدية له لقصتي ( لا أحد) التي نشرتها على صفحات احدى الجرائد البغدادية ، وهي القصة التي تصدرت مجموعتي القصصية الاولى ( العين والشباك ) فيما بعد فعرفت فيه كاتبا متابعا يؤمن بأن الأولوية للنص اولا ومن بعده تأتي العلاقات او لا تأتي . كان في قراءته تلك قدر كبير من المنهجية والمقدرة على التوغل في ثنايا النص بعد تفكيكه على نحو مقتدر يعكس بالتأكيد وعيا متقدما لكاتب انبثق من طين الولادة الأولى .
يقال ان كتابات فهد تضعه في خانة كتاب الخمسينات . ولكنني شخصيا ضد مفهوم الأجيال الوهمي ، بداهة . نصوص فهد تخترق مفهوم المجايلة في الوقت الذي تحمل راية الحداثة ، فلقد استمتعت قبيل ايام بقراءة متجددة لقصص ( عدن مضاع ) هي المتعة نفسها التي رافقتني في لحظة القراءة الأولى اواخر الستينات ، بسبب مقدرة الكاتب على الوصول الى قارئه عبر الصدق والبساطة والعمق في آن معا ، وثانيا لأنه لم يتنكر للعوالم التي كتب عنها : عالم الاهوار والسدود و الفتوق و أعشاب البردي ، أشجار النبق وما كان يدور حولها من خرافات . لنأخذ على سبيل المثال تجربته البكر مع من يملك ومن لا يملك في نص ( أسعد طفل ) وهو نص فائق تناول بمشهدية بليغة التفاوت الطبقي في أدق مجساته فلسفيا وسوسيولوجيا، عبر متن قصصي شديد البساطة . أما قصة ( ثقب السرطان ) فهي من النصوص التي لم تأخذ حقها من الاهتمام ، ربما . يسدد فهد زوم عدسته على السيد حمدي الفيصلي ( وريث ثروة الأسلاف ) على حد قوله . والفيصلي نموذج للشخصية الطفيلية الإقطاعية ، في الأغلب .. تحيا حياة النوم والسهر و الإقبال المنقطع النظير على لذائذ الحياة وعلى نحو متبلد يقوده الى السمنة المفرطة . عالم الفيصلي المتمثل بغرفته التي يسكن ، يبتلى بجحافل من النمل ، فيشير عليه احد رجال حاشيته بالقضاء عليها بالماء تارة وبالنار تارة أخرى .والمفارقة الساخرة التي يؤسسها النص تكمن في البلاغة الاستعارية الذي يظهرها الخطاب السردي للنص بين مخلوق بليد يستمتع بالتندر على الآخرين وبين المخلوق الدؤوب ( النمل ) الذي يمثل الشرائح البشرية الاجتماعية التي تكافح من اجل واقع معاش أخف وطأة ولا تجد بأسا في اقتحام عالم ذلك الكائن البطين . هذه المفارقة الساخرةIrony مررها الكاتب لا من خلال التقرير بل من خلال خلطة متقنة المقادير لكل ما هو مشهدي ، فلسفي ، بلاغي وتقريري يومئ و لا يفسر ،ويتفادى فخاخ الإطناب وألغام التبرير . ولهذا لا نستغرب حين يفتتح الاسدي المقدمة البليغة لمجموعته قائلا : “أحببت شعبي ، لذا لم أجد اصدق من أن اكتب تجاربي معه .. ” وقال في استفتاء مجلة الاقلام : ” لقد نفضت القصة المعاصرة – اسلوبيا- عنها أردية التقرير والسردية المباشرة و الحكائية ، وتحررت من قيود استنساخ الواقع ومن الواقعية الطبيعية ” ( ** ) .
إن أسلوب الاسدي يعكس وحدة رؤيا القاص ووعيه التحليلي المنفتح على البيئة التي عاشها . فعوالمه التي رصدها في كتاباته المبكرة لا تبتعد إلا بأمتار عن تلك التي رسمها في واحدة من احدث أعماله الا وهو رواية (الصليب – حلب بن غريبة ) .
وأنا أتلقى أخباره الصحية المقلقة وتهميشه على يد المؤسسات الثقافية ، والتفاتة جريدة الزمان ، أتمنى للصديق الحبيب فهد الاسدي الشفاء العاجل والعطاء الدائم ..
ها أنا أرد التحية ، وإن متأخرة لمؤلف (عدن مضاع ) .. (***)
و .. تحية أخرى لمعلم استحق التسمية مرتين !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( * ) عدن مضاع ، فهد الاسدي ، قصص ،منشورات دار الكلمة ، ، مطبعة الغري الحديثة ، تشرين اول 1969 .
(**) مجلة الاقلام ،دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، ع 1-2 كانون الثاني – شباط 1993 ص 36
(***) يذكرنا العنوان بقصيدة الشاعر الانكليزي البصير جون ملتون ( الفردوس المفقود Paradise Lost ) ذي الجاذبية ، غير اني اعتقد ان (عدن مضاع ) أكثر جاذبية منه ، وهو العامل الذي حدا بي لأن اختاره عنوانا لمقالة عن البصرة وردت في ملف مكرس عنها في احد ملاحق جريدة المنارة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كيف ومتى قرأت فهد الاسدي..!؟
* جاسم العايف/كاتب
وصلت سجن الحلة المركزي، قادما من سجن معسكر السليمانية العسكري، في أواسط شهر نيسان عام 1964 و لم أجد مكانا ليّ فيه إلا بعد أن تكرم احد المسجونين وآواني في القاووش المسؤل عنه مشترطا عليّ- بدماثة وحياء- بأن مكاني سيكون قرب الباب، وهذا يعني أن كل من يدخل إلى القاووش سينزع خفه قرب رأسي، وسيتقاطر ما علق بالخف عليّ، ويطأ فراشي، و يعبرني، أكان ذاهبا أم عائدا. إزاء التعب الذي كنت عليه وافقت سريعاً. ما أن أزحت أخفاف أكثر من 95 نزيلا ، بعيدا، لأفرش بطانيتي ، ولارتاح من سفر دام ثلاثة أيام، حتى استغرقت في نوم عميق، لم أصحُ منه إلا عصراً، مهدم الجسم يعصرني الجوع، وتحيطني الخفاف من شتى الأنواع. بقيت على هذه الحالة ، مستوحشاً، ممداً ، فلمحت بالقرب مني مجلة بلا غلاف ، ولا عنوان ولكني خمنت تماما أنها مجلة الآداب البيروتية!؟. خمنت ذلك من حجمها ولون ورقها ، واعتيادي عليها وعالمها. تناولتها وبدأت بتصفحها، فوجدت فيها بعض الدراسات لأسماء كنت اقرأ لهم فيها، منهم جبرا إبراهيم جبرا ومطاع صفدي ود. لويس عوض ونجيب المانع ومعين توفيق بسيسو،وكمال عيد و خالد أبو خالد وفواز عيد و العراقي هادي العلوي يكتب عن ” التراث الإسلامي” والشاعرة وفاء وجدي وغالب هلسا وصلاح عيسى وصبري حافظ وممدوح عدوان وفائز خضور وعلي الجندي ، وجيلي عبد الرحمن وآخرون غابوا عن الكتابة والحياة، تُرى مَنْ يعرف بعضهم الآن ويتذكرهم أو قرأ لهم شيئا ما!؟. وجدت أيضا مسرحية ، بعنوان “بائع الدبس الفقير”، لكاتب مسرحي ،ينشر لأول مرة في المجلة ، اسمه سعد الله ونوس. وثمة قصص قصيرة ، منها قصة لكاتب لم اقرأ له سابقا. كانت القصة بعنوان”الطفل والشاحنة” . مر بيّ احد السجناء وبعد أن وطئ فراشي بخفه، ورأى المجلة بيدي وحدق في اسم كاتب القصة، قال لي بزهو وفخر: انه ابن عمي وهو من هور الحمار ، رأيت الاسم فكان”فهد الاسدي” وأسفل القصة العبارة التالية” الناصرية/هور الحمار”.أول ما شدني لقصة “الطفل والشاحنة” التي ربما هي أول قصة قصيرة ينشرها فهد الاسدي في مجلة الآداب البيروتية – حلم الكتاب العصي على التحقق في ذلك الزمن -هو تلك الواقعية التي تؤكد أن ثمة من يتناول الواقع دون إسفاف واستنكاف وإنما يخضع ما يتناوله من الواقع للشروط الفنية ومقتضيات الفن و فظاءاته ، في زمن كانت الكتابة عن الواقع توصم بـ(العار الأدبي) وبقي الاسدي متمسكا بمشروعه في الكتابة الواقعية- الفنية دون أن يعبأ بصخب الستينيات وبعض نزعاتها الشكلية أو السقوط في هاوية العبثية واللامعقولية ، مثبتاً عن طريق إبداعه القصصي- الفني إمكانية الواقعية الحديثة على التعبير عن تطلعات ومشاكل وهموم ومعاناة ومصائر الإنسان . تقدمت الأيام والسنوات وبات الاسدي قاصا معروفا وثمة (عدن مضاع وطيور السماء ومعمرة علي ..الخ) وبقي فهد الاسدي ابناً وفياً لذلك العالم الواقعي المتخم بالعذاب والقهر، عالم الهور الواسع الفسيح .تتميز نتاجات فهد الاسدي بنمط من القص ينحى فيه للربط بين تشابك الداخل/الخارج ،الزمان / المكان،الإنسان/ الطبيعة، وتتجذر رؤيته الفنية وبؤرتها الدلالية عبر معرفة وخبرة في وظائف وطرائق السرد الذي يستعين بالذاكرة الفردية-الجمعية ، دون جاهزية الحكاية أو تموضعها في منطقة تقع خارج بنية المسرود وفضاءاته الدلالية ، وثمة تشابك مع الواقع وجدله و عبارته السردية تتميز بالكثافة والتركيز وتسهم بتقديم بانوراما عراقية شديدة الخصوصية والمحلية الجنوبية بالذات ،التي تتزاحم فيها صباحات ونهارات الاهوار المكفهرة وغابات القصب والبردي وهي تحجب الرؤية بكثافاتها، والمجاديف والكوفيات و(العقل) ودشاديش (الخيش) الخشن وبنادق للصيد وخراطيشها وأخرى للثأر أو للانتقام، والخناجر المربوطة عند منطقة البطن دائما بحزام جلدي أو حبل مبروم ، والفالات ، والجواميس والخنازير والأبقار والفوانيس ورنين (هاونات) دلال القهوة عصرا، معلنةً ترحيبها المتواصل ومذكرةً بالضيف الذي قد حل هنا ، ولسعات “الحرمس” والبرغوث، سيد ليل ناس الأهوار ، والطين والحجر وزمجرة الرياح التي لا ترحم ، والمشاحيف والـ(طراريد) المطلية بقار الأسلاف السومريين. وظل القاص الاسدي ينقب في العذاب العراقي وهو يحاول النهوض من رماد أزمنة القمع والدماء والحرمان والأمراض الفتاكة والحروب ، واتضح ذلك في قصصه التي تنبع أحداثها من الحياة اليومية للهم العراقي، والجنوبي بالذات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهد الاسدي ..دائماً في الذاكرة
*ودود حميد/ قاص
تتداعى الكلمات وتنحسر العبارات عندما تكون الكتابة عن صديق، أبعدته ظروفه الصحية عن حضوره الشخصي.. القلب هذا الجهاز المنبض للحياة، عندما يحرن ممتنعاً عن الإيفاء الكافي لمعطيات النشاط اليومي- تباً لهذا القلب الذي أنهكه حب الناس، فلشدة ما انبسط وانقبض مانحاً المحرومين والمسحوقين والراحلين شهداء ومسجونين، عطشى وجائعين .. ارواءً من نبعه، أتلفت شرايينه فأقعد صاحبه وأبعده عن أصدقائه وأحبابه، وكما قال في مجموعته -عدن مضاع- (أحببت شعبي، لذا لم أجد اصدق من أن اكتب عن تجاربي معه).
عرفت فهد الاسدي عن أخيه الأكبر (أنيس) زميل دراستي وصديق شبابي وتعانقت وتوثقت العلاقة ونحن نرتشف الكتابة بلسماًَ للتعبير عن رؤانا للواقع بكل خضمه المفجع، من اجل تحقيق ما نروم إليه من تغيير نحو حياة أفضل، وفي أواخر الستينات وحصراً في تشرين الأول 1969 وسط الهبة الستينية الهادفة إلى التجريب اللاهث في القصة والشعر، جاءت المولودة الأولى لفهد (عدن مضاع) التي أكدت للواقعية نهجاً جريئاً في الواقعية الجديدة.. وكما يقول الناقد فاضل ثامر في كتاب (قصص عراقية معاصرة):” إن فهد ينطلق في أقاصيصه من رؤيا واضحة ومن منطلقات فكرية وفنية سليمة وبفهم ذكي للواقعية الجديدة”. وكانت لمعاناة هذا المبدع في نشأته وهو المستضعف بين الملايين من أمثاله، أثر بالغ في انشد اده إلى بيئته ومجتمعه وكما يذكر-:
-عصرتني في شبيبتي التناقضات الحادة التي عاشها مجتمعي فكانت قدراً مسلطاً لوّن أيامي بالمرارة.
وفي مكان أخر يقول-: أمس مر بي الضالعون فسخروا من إنساني المدمر، ولكن لم تثرني سخريتهم بمقدار ما اسائني جهلهم كوني لست بالمهزوم. وهكذا كانت بداياته قد خلق لديه مشاعر التحدي و المثابرة من اجل ان يكون غير ما يتمنون واذكر في ذلك عندما حاول المرتزق (خ…. ) في احد اللقاءات استفزاز فهد، فرد عليه بكل جرأه وشجاعة :” لا تتجاوز يا (خ..) فنحن أهل الدار وارض العراق أرضنا”.
في عام 1967 صافحت النور مجموعته الثانية (طيور السماء) التي ما فتئت نكهتها بروائعها العشر، طرية في الذاكرة حيث ان كثيراً من النتاجات تمر علينا دون اكتراث وسرعان ما يطويها النسيان على عكس (طيور السماء) التي ما زال القارئ يتمتع بأحداث قصصها حتى الآن، فمثلاً قصة – طيور السماء- وبطلها (حلب) تتفاعل وجدانياً وإنسانياً كلما مرت الأعوام، وبهذه المناسبة فهذه القصة تحولت إلى مشروع سينمائي باسم (حلب بن غريبه) وكان من المقرر أن يضطلع بإخراجه د. (عباس الشلاه) ولكن الظروف جعلت الريح تجري في غير مسارها فتأجل المشروع كما إن قصة (المعجزة) التي تتحدث عن أسطورة (احفيظ) ذلك المشعل المضيء ليلاً في أبعاد الهور وما يكتنفه من أسرار عجيبة، ربما أراد القاص في هذه الخرافة أن يوظفها كرمز موحٍ لأجل الوصول إلى غاية معينة.وهكذا كان وما يزال أدب فهد الاسدي القصصي رائداً متألقاً على مر الزمن.. وأخيراً أتمنى لصديقي الحبيب فهد ان ينهض معافى سليماً عالي ألهمه يضيءُ في ذراعه المشعل الذي آلينا أن لا ينطفئ على طول مسار حاضرنا الإبداعي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أراه في كتاباته
*مجيد جاسم العلي/ قاص
كنت أراه في كتاباته ، وكتاباتي أيضاً قبل ان التقية جسداً تتحرك في داخله دماء الأديب المنحاز إلى إنسانية الإنسان، الرافض لكل ما هو باطل رغم الظرف اللا نساني الذي كنا نمر به، نحن المضطهدين منذ عقود. ولان لي صديقاً حميماً كما الظل، هو القاص “ودود حميد” والذي تربطه علاقة قديمة بالقاص فهد الاسدي فقد شاءت الظروف ان نلتقي معاً في بدايات سني السبعينيات من القرن الماضي، في جزيرة السندباد مقر إقامة وفود مهرجان المربد الذي كنت وصديقي ودود لا نأبه به كونه يقام تحت خيمة البعث. دعانا القاص فهد الاسدي إلى شقته التي كان يشاركه فيها القاص “احمد خلف” ، نظر إلينا الاسدي.. ثمة ابتسامة استخفاف على شفتيه فيما استعرض حركة يده أثاث الشقة الأنيقة، مترجمة مقولة شعبية صامتة -: ((انه وين، وهاي وين..!)) فهو قاص عاش الحرمان ، وتحسس عذابات شعبه، معبراً عنها في قصصه التي أحببتها ووجدت فيها نظائر في قصصي، وتمنيت ان التقي صاحبها لقاءاً جاداً، الا ان الفاشست أودعوني دهاليز السجن وهمشوني لأكثر من ربع قرن فحال بين لقاءنا المغيب ، هو الآخر. ويحدثني صديقي ودود حميد عن فهد الاسدي ليبقى في الذاكرة مثلما يحدثني بعض المعلمين الذين تعايشوا معه في دار واحدة في محافظة ديالى، وهم زملائي الذين تنسبوا معي إلى تلك المحافظة في العام 1965 وكانوا ينقلون لي طيبة فهد، وأفكاره التي لا تعرف المساومة رغم أنهم لم يكونوا من المهتمين بالأدب، وهكذا ظل فهد الاسدي عالقاً في ذاكرتي سنين عديدة..سلاماً أيها القاص المبدع الجريح.. وسلاماً يا عراق يا جريح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهد الاسدي بين الرؤيا والإنسان و (عدنٍ مضاع)
*باسم الشريف/ قاص
ثمة نقطة للبداية ،تتجلى على شكل أسئلة عميقة وحساسة . ما هي الدوافع التي تدعو لكل هذا الإعجاب الكبير الذي يحضا به كاتب مثل ( فهد الاسدي )!؟ من أين له بكل هذا الإمتاع ؟ . بتأمل وروية يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة ببعض من التفحص والتمعن .على حد علمي إن الاهتمام البالغ الذي يحضا به كاتب مثل المبدع (فهد الاسدي) تعود لمجمل تلك الأعمال التي أنجزها على مدى ما يناهز الأربعة عقود سواء ما كان منها قصصي أو روائي لاسيما تلك التي تشع منها عوا لم الاهوار المسحورة ، الأساطير والكوابيس والأحلام وربما عالمه الطفولي(عدنه المضاع) الذي تشبع بسحره وما زال إلى هذه اللحظة مأخوذا به .فمن غير الممكن أن نتحرى كل هذا الثراء الباذخ في أعماله دون التعرف على البدايات. ففي لقاء موسع أجراه معه الصديق القاص كاظم حسوني أشار فهد إلى تلك البدايات “عشقت القراءة منذ صغري ) يقول (والذي فتح هذه البوابة أمامي، هو تشجيع من مكتبة عامرة كانت قد أسستها دائرة العلاقات البريطانية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في بلدتي” . أذن فهو ومن تلك اللحظة بدا ينهل عشرات من القصص والروايات والحكايات . ثم تطورت القراءات تعرف على الأدب الروسي وكتابه العظام بوشكين وتشيخوف و تولستوي وغوركي وعدد آخر من قمم ذلك الادب.هذا الى جانب انبهاره بالأدب الانكليزي متمثلا بروايات ويلز وديكنيز وتوماس هاردي .استطاع فيما بعد أن يتعرف على الادب الفرنسي عبر رائعة ستندال (الأحمر والأسود) ما لبث أن تعرف على الادب الأمريكي بقطبيه الشمالي متمثلا (بهرمان ملفل) واللاتيني بعمالقته (بورخس ، استورياس ، ماركيز) . فمع كل هذا الثراء الإبداعي صار لزاما علينا أن نرى بوضوح أننا أمام شخصية إبداعية فذة تمتلك من الدربة والحرفية ، ـ هذا الى جانب ذلك الاهتمام بهموم الانسان ومشاكله ـ مما سيؤهله الى صنع رؤية أدبية محكمة الاتقان انتجت لنا (عدن مضاع ) 1969 و(طيور السماء) 1976 و( معمرة علي )1994 ثلاث مجاميع قصصية الى جانب روايته (حلب ا بن غريبه/ الصليب ) فقد عمل القاص المبدع فهد الاسدي على تشييد ذلك العالم السحري بروية وتأني بعيدا عما لازم الحقبة الستينية التي كان ينتمي لها من توجهات شكلية وأساليب كانت تميل في مجمل ما أنتجته الى الإبهار متخذاً من الحكايا الشعبية مصدراً لعوالمه وكان للموروث دوره الباذخ في معظم اعماله الإبداعية فقد وظف أسطورة (أحفيظ) توظيفا سياسيا-اجتماعيا عاليا متخذا من فكرتها رمزا عبر قصته (الوميض) التي ضمتها مجموعته الأولى وعلى الرغم من كونه واحدا من تلك الموجة إلا انه عمل جاهدا على أن يكون له المسار الخاص ذلك المسار الذي بات يعرف فيما بعد (الواقعية الرمزية) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القاص (فهد الاسدي): صورة جانية
مقداد مسعود / ناقد
عافية وعيهُ الاجتماعي/ حصنتهُ من الإصابة بأمراض القصة القصيرة العراقية، التي انتشرت في أمواج الستينيات المحتدمة، ومن أجل أن يحلق عالياً مع (طيور السماء) غاص عميقاً تحت (اليشنات) متوغلاً في أمواه ونباتات وأصوات (هور احفيظ) عاقداً اتصالاً فنياً متفرداً بين الغرائبي والمألوف وهو في اشتغاله على الغرائبي وتوظيفة في نسيج قصصه لم يكن مغترباً عن محليته وبيئته، ذلك لأنه التقط الغرائبي من خزين الذاكرة العراقية، ولم يفرضهُ علينا من خلال قراءاته. في كل نتاجاته ينتصر القاص (فهد الاسدي) للإنسان العراقي المضطهد حد التشيؤ .. لذا سعى بكل جهده الأدبي الى دعوتنا للمساهمة في تأثيث المدينة البديل / المدينة اليوتوبيا، من خلال معادلها الموضوعي اعني شخصية (حلب بن غريبة) التي قدمها القاص (فهد الاسدي) الى القارئ العراقي من خلال جنسين متجاورين…رواية وسيناريو فيلم يحملان الاسم ذاته : “حلب بن غريبة” , وقرأنا العنوانين في الصفحات الأخيرة من مجموعته القصصية الجميلة (طيور السماء) الصادرة في أوائل سبعينيات القرن الماضي.. وعاود القاص (فهد الاسدي) السعي الفني الى اليوتوبيا مع نهايات القرن الماضي، تمثل ذلك في عمله الجميل (معمرة علي) ها هو القاص (فهد الاسدي) يحلق عالياً ليقودنا الى غرائبيات (هور أحفيظ) ويوتوبيا (معمرة علي) تاركاً لنا حق البحث والتأويل في مدائنه الأدبية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهد الاسدي.. كاتب دراما الحياة
* *احمد السعد/ قاص
لم ا قرأ الكثير من الروايات والقصص القصيرة عندما قررت ان اكتب أول قصة لي كانت ما تزال مقرون ب( الطعشات) التصاعدية . قال عنها من قرأها ، من الأدباء الكبار بأنها قصة هزيلة ونصحني ان اواضب على القراءة ،وأعارني مجموعة من الكتب كان من بينها (عدن مضاع) المجموعة القصصية الأولى للقاص والروائي المبدع فهد الاسدي ، واستمرت متابعتي لمنتج الكاتب حتى اقتنيت وقرأت (طيور السماء) مجموعته القصصية الثانية و(معمرة علي) مجموعته القصصية الثالثة الصادرة عام 1993 . اليوم و بعد ان تجاوز عمري زمنه الثقافي المراهق وصار ذاك الأديب الذي نعت قصتي الأولى بأنها هزيلة صديقاً حميماً نتبادل معاً الأفكار والأسرار، أجدني خجلا ومرتبكا في تقديم شهادة قد لا أفي حق مستحقها وهو الأديب فهد الاسدي الذي لا يحبذ ان يكون تلميذاً للقصة الخمسينية أو الستينية كما أعلن الفرقة بينه وبين القصة التجريبية ، هذا ما التمسه في كتاباته وما قاله بكل صراحة في لقاءٍ تلفازي . ان ما يمكن قوله عن تجربة القاص والروائي فهد الاسدي انه (كاتب دراما الحياة) التي يتوجه فيها الفعل والهدف المحدد في سيطرة متوازنة بين المضمون والشكل ، وانه قد تناول جوهر المعضلة في مجتمعنا أكثر من الاهتمام بالشكليات والإطارات. و تبقى قصص فهد الاسدي محافظة على الإبرة والخيط كما يقول جون هولبرن ( ان الفكرة والشكل، هما الإبرة والخيط ، ولم اسمع مطلقاً بنقابة خياطين أوصت باستخدام الخيط دون الإبرة أو الإبرة دون الخيط) انه الدرس الأول الذي تعلمته من هذا القاص والروائي المبدع ولا اعتقد بأنه سيكون الأخير مع تمنياتي له بالعمر المديد وبالإبداع الزاخر .