أما نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين فقد شهد انهيار الاتحاد السوفيتي وعودة دول البلطيق للظهور ثانية, وتحررت جميع دول حزام الاتحاد السوفيتي, وشهد أيضا تفكك الاتحاد اليوغسلافي وظهور كل من سلوفنيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا وً مونتينكرو, وشهد أيضا انتصارات واسعة للديمقراطية وحقوق الإنسان حيث أُقتُلِعَتْ اعتى الدكتاتوريات لدول مثل بولندا ورومانيا والمجر وألبانيا, ولتنهي ألمانيا الشرقية والى الأبد, مأساة حائط برلين بلم شملها مع اصلها, ولتظهر من جديد ألمانيا الموحدة الواحدة , كما أرادها رائد وباني وحدتها (بسمارك). كما ظهرت إلى الوجود ثانية دولتا سلوفاكيا وجمهورية الجيك. لقد رافق هذه المتغيرات, تطور مذهل في وسائل الاتصال وتفرعاتها من الفضائيات والهواتف النقالة والانترنيت, واكتشاف الخارطة الوراثية للإنسان وكشف اسرارالجينات , والتوصل إلى تقنية الاستنساخ. كما تمت لأول مرة, ملاحقة رؤساء الدول بتهمة انتهاك حقوق الإنسان والإبادة, بما سمي بالظاهرة (البينوشيتية), ومن ثم محاكمتهم كما حصل مع سلوبودان وتيلر وصدام, وبجانب ذلك ولأول مرة أيضا تصدر الأمم المتحدة, قراراً بانتهاك حقوق الإنسان برقم 688 والذي يعتبر بحق سابقة تاريخية, جاءت تتويجاً مشرفاً لنضال وصراع البشرية جمعاء من اجل حقوق الإنسان , رغم إن ما يؤسف له, أن تشاء الظروف صدور هذا القرار بحق بلد (وبسبب تخلف وجهل حكامه) كان الأول في تأريخ البشرية من شرع حقوق الإنسان, بما جاءت به نصوص مسلة حمورابي في ارض الرافدين.
إن مسيرة تطور البشرية , تؤكد وبما لايدع أدنى شك بأن هناك ترابطاً وثيقاً ومحكماً بين ارتقاء الإنسان وتطوره الثقافي والعلمي والحضاري وبين حجم وكم حقوقه الإنسانية وأجواء الديمقراطية التي يتمتع بها. كما تؤكد أيضا, بأن مستقبل أنظمة دول العالم وبالتحديد الأنظمة الشمولية والدكتاتورية, من بقايا القرن الماضي, لا يمكنها مصارعة رياح التغيير نحو الديمقراطية, وان هذه الأنظمة تدرك هذه الحقيقة, رغم ما تفعله للصمود أمام هذه الرياح مقابل يقين شعوبها القاطع بحتمية حدوث التغيير.
إن السير بما يتوازى وينسجم مع القرن الحالي , يتطلب رؤى ومفاهيم جديدة متطورة ومتوافقة مع ما وصلت إليه البشرية وعلاقاتها الإنسانية والسياسية والاقتصادية, المختلفة بشكل أساسي عن تلك التي سادت خلال العقود الأولى من القرن الماضي عن الاستعمار والتبعية والإمبريالية. ويستوجب أن تكون خطى الشعوب مسرعة وحثيثة في كافة المجالات بعد أن تركت وراءها في ساحة الوغى التي تصارعت فيها الأيديولوجيات أطلال وبقايا من ركام الثيوقراطية والاشتراكية والشمولية والدكتاتورية . إن تطور وتقدم دول ما يسمى بنمور آسيا لم يحصل إلا بسبب سلامة تعامل هذه الدول حسب مقتضيات ومتطلبات العلاقات الدولية بما يتوافق مع الرؤى الجديدة لهذه العلاقات… وبالمقابل نرى بلداً مثل العراق يمتلك كل مقومات النهوض والتقدم والتطور وصولاً إلى مصافي الدول المتقدمة, عجز نظامه السابق عن التعامل بما يتوافق مع الرؤى الجديدة للعلاقات الدولية بسبب من أحادية فكر سلطته الحاكمة و محدودية تفكيرها و موروثها الوطني الذي يعود إلى خمسينيات القرن الماضي. فلم يستطع هذا البلد مواكبة ما وصل إليه مستوى دول مثيلة له. فرغم إطلالة الألفية الثالثة بقي خطاب تلك السلطة معلقاً بما كان سائداً قبل عقود من الزمن حين سادت الفنطازيا والخرافة والخيال والقومية والثورية والاشتراكية, ردحاً من تلك الأيام, وبما انعكس سلباً على تقدم وتطور الكثير من الشعوب وخاصة شعوب الشرق الأوسط ومنها العراق.
لا يُمكن إعادة أيّ حضارة سابقة كما كانت لأنَّ ذلك يتطلّب إعادة نفس الشروط الموضوعية التي سمحت بالنهضة آنذاك. إذ أنّ تفعيل حضارة في مجتمع راكد توقفت فيه الابداعات والتواصل الحضاري والتبادل الثقافي مع الامم الاخرى وحكمته عقلية الافضلية والارتقاء دون الاخرين يحتاج اول مايحتاج اليه هو التخلص من الركائز والبنى الثقافية القائمة والتراكم الموروث ومريدي ذلك التراكم اولا, وثم اعادة بناء حداثوية يكون ركيزتها ومرتكزها وهدفها الانسان وحقوقه التي اقرتها البشرية في الامم المتحدة, وان يكون اعادة البناء متناغم ومنسجم مع تلك التي ارتكزت عليها الامم ذات التواصل الحضاري المتقدمة في شتى مجالات ومفردات الحياة. وبأختصار شديد جدا تتطلب رؤانا للمستقبل وللحاضر لبناء الامة ان تكون محورية كل ذلك هو وضع الانسان الفرد المواطن في الدولة والمجتمع والإيمان بحرية فكره وحقوقه كاملة.
قبل مائة عام تقريباً عندما كان عبد الرحمن الكواكبي و خير الدين التونسي والشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ينادون بالإصلاح والتغيير والنهضة في العالم العربي الإسلامي، كانت إمكانية اللحاق بالحضارة السّائدة نظرياً وعمليا ليست ببعيدة آنذاك.
ولكن بالتضاد ولسوء الحظ سادت الثقافة القومية بنـَفـَسِـها العنصري وَوَأدت الحركة الفكرية الاصلاحية التي نادى بها رواد الاصلاح اولئك , فمنذ أوليات القرن العشرين وليومنا هذا , عجزت الثقافة القومية التي اغلقت كل النوافذ عمدا وتعمدا على كل الثقافات الاخرى سوى ما يتفق مع عنصريتها وشوفينيتها, عن تحقيق برنامج للنهوض , بل كل ما طرحته هو التعويل على مشروع الوحدة , الذي أريد له أن يكون مرتكزا ومنطلقا للنهوض والتقدم , دون السعي أولاً لتأمين المرتكزات والعناصر الأساسية التي يتطلبها , و إن كل ما استطاعت هذه الثقافة من تحقيقه , هو النقيض تماما لتلك المرتكزات , فلم تعط غير شعارات جوفاء , كانت السبب في قيام دكتاتوريات بغيضة و أنظمة تعيش دوماً زمنا متخلفا دون الآخرين , معتمدة في بقائها على اجترار تلك الشعارات التي تهرأت من كثرة التكرار , فرغم إن شعوب المنطقة أيقنت بعبث مواكبة أنظمتها لهذه المسيرة , بسبب ضخامة ما خسرته من تقدمها وتطورها ورفاهيتها , كتضحية لتحقيق تلك الآمال العريضة في الوحدة , فأن هذه الأنظمة , تصر على السير في ذات الطريق الذي اصبح مرادفا لطريق التخلف والفناء , ولا أدل على ذلك من واقع الدول العربية الذي عكسته بشكل واضح تقارير الامم المتحدة للتنمية البشرية, حيث تؤشر بوضوح لا لبس فيه أن ما تسير عليه الدول العربية سيؤدي بشعوبها إلى الاضمحلال والتحلل , ورغم كل هذا فأن هذه الأنظمة مازالت تستمد شرعية بقاءها وإصرارها على البقاء , والحكم والتحكم بمصائر شعوبها , من شعارات تلك الثقافة و تنظيرات مفكريها , ولم تستطع هذه الثقافة أن تنتقد حالها وحال الحكام ممن كانوا نتاجها , ولا الحكام استطاعوا تلمس طريق الخلاص لإنقاذ الحال من الدرك الذي أوصلوا إليه شعوبهم , ومن ثم التحرر من الأطروحات الجامدة و نبذ الشعارات الجوفاء , فالأنكى من ذلك , إصرار بعض المنظرين على سلامة النهج أو طرحهم حلولا خاوية ليس فيها سوى دغدغة لعواطف الشعوب , وتبريرا لنهج حكوماتهم…أن حاملي ومنظري هذه الثقافة هم المتنكرين للجوانب المشرقة للتراث العربي والإسلامي والإنساني , كونهم اغتربوا على فكر بسماركي , لذا تراهم اليوم اشد المدافعين عن صدام (بطل) القومية الأول كنتاج لفكرهم وثقافتهم , متجاهلين ما أوصله وأمثاله من الحكام العرب , لحال شعوبهم إلى ما هم عليه …
إن كل المؤشرات والمعطيات تؤكد إن الوقت حان للشعب العراقي الضحية الكبرى لتلك الثقافات وشعاراتها التضليلية الزائفة , للخروج و الانعتاق من قوقعتها وكسر التحجر و التجمد , و الانعتاق إلى آفاق ثقافة عراقية تلامس جذورها أوليات الاشراقات الحضارية للبشرية , لبناء عراق جديد حر , ونظام ديمقراطي تعدديً , يستمد شرعيته من دستور يحمل كل بصمات التنويعات الجميلة لمكونات شعبه القومية والدينية والاثنية , و ما أنتجته ثقافاتهم و من تراثه الإنساني المتنوع , و مما أفرزته مسيرة البشرية من قيم ومفاهيم التسامح والعدالة , متناغماً مع متطلبات الحداثة والعصر, و ما وصلت إليه حقوق الإنسان , من ارتقاء وتطور وتقدم , لتأمين الحياة الحرة الكريمة والسعيدة , التي يستحقها الإنسان العراقـي .
لقد أثبتت الحياة , ومن خلال مسيرة البشرية الشاقة وتضحياتها , طردية في التبادل والتنافذ , بين إبداعات الفرد وعطاءاته الخيرة , وبين محيطه الخارجي , فضلال وظلامية الفكر المتخلف الذي لايضع اعتبارا كافيا للانسان وحقوقه لا تفرز غير التخلف والجوع والجهل والخراب, و هو واقع حال معظم الدول العربية والاسلامية حيث انتهجت غالبية قيادات هذه الدول و تياراتها الثقافية ذلك الفكر الضلالي المتخلف , متنكرة لإشراقات ما تراكم للعرب من التراث الفكري المتقدم وما متاح من تراكم الفكر الإنساني.
على العكس من الاستبداد والجور, تكون فيه الديمقراطية و ما تمنحه من حرية وحقوق للفرد والمجتمع , حافزاً للخلق والإبداع و من ثم التقدم والتطور… إن القرن العشرين كان الفيصل الواضح والبَيّن لاتجاهين متضادين… فمنذ بدايته , دخلت البشرية في مسارين متنافسين , لا يجمع بينهما غير التناقض و التنافر , سارا بخطى , تشوبها وفي كل لحظة , حالات الخوف والقلق من الفناء والدمار , دنت فيه ولأكثر من مرة , من حافة هاوية الدمار التام و الشامل, ورغم ذلك فإن البشرية , وبفضل جهود شعوبها , خاصة المتمتعة بحقوقها الإنسانية و حريتها وكرامتها , قد حققت إنجازات علمية , أضعاف ما حققته البشرية جمعاء عبر ترحالها على امتداد التاريخ , وقد أكد سعيها ذلك وجهودها , بديهية أن لا تقدم ولا تطور و لا ارتقاء للشعوب في هذا العصر , من دون تمتعها بحقوقها الإنسانية , في الوقت الذي تخلفت ومن ثم انهارت فيه صروح الاستبداد والجور , من الأنظمة الشمولية والدكتاتورية , وتساقطت كأوراق خريفية صفراء , وما بقي عالق منها , آيل للسقوط حتماً اليوم أو غد , وبأسرع مما يتصوره المتشبثون بالمفاهيم والأفكار الباليه الشمولية والأحاديـة , من متصحـري العقـول والسـلوك …وغداً ستشرق شمس الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان , ناشرة نورها في كل زوايا الظلم والظلام وبؤرها في المحيط العربي والإسلامي…
من المؤسف والمؤلم جداً إن هناك أطرافا عراقية مازالت تعيش أسيرة شرنقة الموروث الوطني, هادفة الى حكم البلاد حكما ثيوقراطيا متخلفا وراهنة مواقفها الوطنية لإمتداداتها الجوارية , رغم كل الحقائق والوقائع التي افرزتها الاعمال الارهابية داخل العراق بما لايدع ادنى شك بتدخلات الجوار السافرة بالشأن العراقي لإفشال المشروع الديمقراطي العراقي وبالتالي الامريكي في الشرق الأوسط , لضمان بقاء النظامين الايراني والسوري الشموليين وضمان سيادة الفكر الثقافي المتخلف , واستمرار عبث التطرف الاسلامي في المنطقة , ولديمومة النظام العربي والاسلامي السائد بتقاليده واساليب حكمه المتوارثة. إن رؤى هذه القوى العراقية توقفت عند القرن الماضي ولم تستطع او بالاحرى لم تود ان تساير متغيرات القرن الحالي ولم تر او تدرك المنعطف الكبير للبشرية بعد سقوط جدار برلين و احداث 11 ايلول 2001 واستمرت بتشبثها بمعطيات زمن الحرب الباردة. لابد انها ادركت جيدا ان هذا القرن ومابعد ايلول 2001 لايتفق ولايحقق آمالها لأن سمته هي التخلص من انظمة الحكم الشمولي واحلال الديمقراطية والحرية بما ينسجم مع متطلبات العالم في امن الشعوب ودرء خطر الارهاب عنها وما تقتضيه العولمة وفتح الحدود امام التجارة العالمية .
ان مواقف وتصرفات وقرارات القوى الاسلامية العراقية وخاصة المؤتلفة مع الكورد لاتبعث على الاطمئنان. إذ ان موقفها من الفيدرالية متذبب ولاينسجم مع ماطرح في مؤتمرات المعارضة. وطرحهم فيدراليات الجنوب في ظروف هيمنة الميليشيات الموالية لإيران, يوضح ان هذه الكتلة تتعامل مع بنود الدستور المتعلقة بالفيدرالية باسلوب يثير القلق من قيام دولة اسلامية جنوب العراق. هناك حقيقة تأريخية وهي ان الفيدرالية تلم وتوحد شعوب متفرقة ولم يحدث حسب علمنا ان تحولت دولة قائمة تاريخيا الى دولة فيدرالية وهذا ما ينطبق تماما على العراق فالعراق هو الوسط والجنوب وله امتداده التاريخي.
قراءة دقيقة للدستور وماورد فيه من تلغيم اسلامي تؤكد عدم سلامة نوايا القوى الاسلامية وعدم صدق توجهاتها التي تدعيها بشأن الديمقراطية. إن ديمقراطية الأحزاب والتنظيمات الإسلامية في الحقيقة ماهي إلا (دينقراطية). فمن المرأة الى رهن القوانين بمدى توافقها مع الشريعة والى امتيازية رجال الدين, وتطبيقياً اخضاع مشاريع القوانين في (البرلمان -خيبة أمل الشعب العراقي-) لتمحيص اسلامي يؤكد انها دينقراطية وليست ديمقراطية يضاف الى ذلك ممارسات الاسلاميين في الشارع العراقي من خلال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتجاوزاتهم اللاأخلاقية وتدخلاتهم بالحرية الشخصية للفرد وتركيزهم على فرض الحجاب على المرأة بما يؤكد صحة القول ان المرأة هي طريدة الأسلاميين فهم يدركون جيداً ان للمرأة الدور الرئيسي في نهضة الأمم وتطورها حضاريا وإنعتاقها في الآفاق الواسعة للحرية وأن اخضاع المراة والسيطرة عليها يعني التمكن من التحكم في المجتمع وتسييره وفق مشيئتهم. كل ذلك يكشف انها تهدف لتأسيس نظام حكم اسلامي, متجاهلة حصيلة الحكم الثيوقراطي (الإسلامي) في كل من السعودية وايران وما تسببه في ظهور المنظمات الارهابية وانتشارها في ارجاء العالم , فهذه المنظمات ترعرت ونمت وتخرجت وهي برعاية مباديء واخلاقيات وقيم وثقافة النظام الثيوقراطي المقيت وحده وثقافته الإسلاموية وحدها فليس هناك بينهم ارهابياً واحداً يحمل ثقافة ماركسية او كونفيشوزية او بوذية او علمانية ليبرالية بل ثقافة اسلاموية خالصة . الأديان السماوية متشابهة فيما تحمله بين طيات كتبها المقدسة بما يدعو الى القتل والأنتقام والرعب والخوف من جانب وبما يدعو الى المحبة والإنسانية والخير والتسامح من جانب آخر. ألا ان الأمر متوقف على القيمين على الدين وما يختاروه للترويج من كتبهم المقدسة. فحكم الكنيسة في اوربا المسيحية شاهد على ان الكنيسية حكمت في منتهى القساوة وارتكبت ابشع الجرائم استناداً لنصوص كتبها المقدسة , وهاهي الان الكنيسة نفسها توجه اتباعها بمفردات من نصوص كتبها المقدسة نفسها بما ينسجم مع متطلبات التطور الذي ساد كل مفردات الحياة وارتقاء حقوق الانسان وقد بقيت اوربا مسيحية رغم التحول الكبير والمنعطف الحاد في توجهات كنيستها.
ان لم تنظر القوى الاسلامية السياسية الى مايدور في العالم وتقرأ بعقل منفتح قصة الصراع بين الدين والحرية فأنها ستؤسس لصراع ستكون هي الخاسرة فيه .. ولنتظر ما سيأتي به الغد.