تعتبر الشاعرة الأردنية نبيلة الخطيب واحدة من الشاعرات العربيات اللاتي تبوأن الهوية سارية الابانة الفصيحة في مَرِئَ اللفظ، من حيث وارد أبجدية الذات الشاعرة، الذي تَمَيَّزَ أسلوبها بالحداثة، ومنه الشعر التصويري، فالشاعرة تؤدي منظومها المتقن من وسع تمام المزايا الشعرية الحاصلة على رضا الناقد العربي على اختلاف توجهات علومه في المنتج المُوَضَح إيراده من حيث وثاق الحركة النقدية العربية ذات الهوية المحكمة من منظور كفاءة رفع الشأن المُحْدَث، هذا لأن شعر الخطيب ناضج العواطف والمراد، بوازع حصولها على التقدير المتمثل طباقه مع أبنية مفعمة بجلال مقام شاعرية العمود والتفعيل، وقد تُوجت أعمالها الأدبية بالتفوق والاتصال بمؤثرات التغاير بما يدل على اعتبار فصاحة سَجيّة الذات شكلاً ومضموناً، وهو ما يحكم اشتقاق البديع تارة من جهة لفظه، وتارة من جهة مهوى محاسنة تُحَصن المُقَول اشتقاقه بالتلميح الذي يعاين موقع المعنى، بوسيط محكم التأويل الذي رافق وارد صفات المقابلة بين الموحى للشاعرة، وبين مستوى ثقافتها، بما يتعلق ويتلاءم ويتسق بالمعنوية الجاذبة لعلم التسجيع الرائق عندها، الذي يستقيم وضوحه في معيون واقع جناس التغاير الشعري المنسكب معناه بالوجوب والارشاد الحاصل في عمق فنية تتسامى مع التماثل الأعلى في مكانتها المميزة، بما توصلت إليه من بلاغة جعلت من الظاهر في شعرها يكشف عن باطن فصاحة الألفاظ المطوعة لورثٍ دقيق المجرى، من حيث أبنية يشتق دليلها من رؤية توازن المواقف المصاحبة للتحولات الاجتماعية بها أحد شيئين :
أولاً: إما فرحاً يفضي إلى مواجهة الطغيان، إذ لا ترى لنفسها غير التضحية.
ثانياً: وإما حزناً يؤيسها الصمت لو أنها ترى الغيث من ظلم يحاكم جنسها.
إذا كشفنا عن مرجعية الأبعاد الأدبية في تمدن عصر النهضة العربية، وخاصة الشعرية الكلاسيكية نستنتج التجديد المحكم بلوغه عند الأسماء: معروف الرصافي، أحمد شوقي، محمد مهدي الجواهري، جميل صدقي الزهاوي، خليل مطران، حافظ إبراهيم، مصطفى جمال الدين، قسطاكي بن يوسف، مريانا مراس، عاتكة الخزرجي، ومن معيون هذا الوارد الأدبي المعاصر نجد الشاعرة الخطيب تمتع جناسها الشعري بفصاحة التعبير من حيث مجانسة التحديث، خاصة في تفاعلها مع البنية التصويرية المركزة على تأويل الخواص المثالية في علم البديع المُوَضَحْ في قصيدتها القصيَّة، بواسطة تحقيق رؤية التلاقي المدعوم بالحجة والبرهان في إحكام التَصرف الوجداني المؤثر وقعه على القارئ العربي، بكون النص يعتمد الوضوح المشهود له من مستحدث بوازع مكانته على صفحات النقد العربي، لأن مستفعل الوارد المركز على جمانة المشهد الشعري عندها، اعتمد الصفة الماهرة في بيان خلق نظام لم يضعف فيه علم الكلام المصاحب على ما يكون موافقاً للتلقي، بتأثير احتمال التأويلات التي تحاكيها الأفكار المستمدة ثقافتها من الصفات الدالة على تصوير حقيقة الشيء الجاري بيانه على نعت التخييل، فشعرها يحكمه الايضاح المركز على الصورة الصوتية من معين تلاقحها بالمجاز المُرسل بالحال الفطن في توازن تأملات الالتقاء بالحداثة، على اختلاف الجناس الموحى لخلق إفعال أفانين البيان المقصود بالإضافة، على أن ترفع من تشكيل إظهار التوشيع بالاستعارة النوعية بنفسها، من سقاء استزادة أُطْرُوفة المعرفة بطابع خيال تلفظ قوامه من حيث قابلية الطراز اللغوي، بصفة الخلق الذي يحترز لمح الاطراد الفني بأنه يحكم التجسيد الحي الخلاق للفكر، بوازع أرْيَحيَّة توافي خلايا النص بالائتلاف الحسي، وفي هذا الإحكام المنيع يدلنا الشاعر كعب بن سعد الفَنَوي من شعره:
” حليمٌ إِذا ماَ الحلمُ زيَّنَ أهْلَهُ – مَعَ الحِلْمِ في عَيْنِ العَدُوَّ مَهِيبُ 1″.
وفي هذه الخاصية يدلنا فريدريك نيتشه في نصائحه إلى ما: ” يمكننا بهذا المعنى أن نشعر بنفس ما يعبر عنه مبدأ القواعد المتقنة لوحدة وبلوغ النص الشعري ولادته الموفقة 2″. ومن معيون هذا الأساس نجد الشاعرة تتحلى بقوة الملاحظة المستهل قرارها في اليقين الحاصل خبرهُ المُتَبايِن من حيث اختلاف مجمل الجناس الفني المنسوج بتأثيرات لطف اللغة، ومتعة المطالعة الحاصلة في لزوم الماهية الذكية، أن يكون التمثيل يعكس وظيفة المجاز المركب بين صورة تجانس صورة أخرى، بتقديم الصَّميم الخالص أن يبلغ المَعرفة بالحجة المحصنة، باجتهاد وحدة الجناس سواء أكان في العمود أم في التفعيل، حتى يستقيم المبنى على استمرارية واضحة اللفظ اللازم بين جواب أفعال مختصة بالتحويل، وبين أفانين الفائدة بالمستوى الذي يعبر عن المطلب الذي تجده الشاعرة يتساوى مع شعر الأولين من غير طمع ولا جزع،
1- بن سعد، كعب الفنوي، كتاب الطراز، الجزء الثالث، دار الكتب الأهلية
2- نيتشه، فردريك: كتاب العقول الحرة، دار أفريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الثانية 2010، ص64.
بين الإكمال والتتميم في ظاهره وباطنه، من حيث فصيح الكلام بما يقتضيه النحو الدال على تحقيق مؤثرات المضامين على أن يخالط المبوب ابْتِدَاؤُهُ بالجائز قيامه الواضح، وانتهَاؤُهُ المتمثل في لغة العرب عامة في الشكل والباطن بثبات تعيين جوازه، ومن وارد هذا كأني أجد الخطيب تستمد علمها غزير الفوائد من تاريخه الأول على يد الفصحاء، فيما سمي بالعصر الجاهلي وما تلاه، على أساس الارتباط اللغوي المتباين وضوحه في استدرار التلاقي اللازم في قضاء الحصانة الشعرية، عبر المجايلة على نمط يطابق بعضه البعض من منظور الحياة اليومية، على أساس اتصال الإنسان بموقعه ضمن محيطه المجتمعي، بأثر التغيير المألوف بالطبائع والعادات المفترضة، وعليه فالمفترض أن يمارس الفرد حالة التلقي من حيث ارتقاء بنيوية تخلق الفاعلية نحو ازدهار معنوي توافق الذات الشاعرة، من خلال تواصل الأفكار المحسوسة في النص الشعري الموصول متعة للنفس، إلى غير ذلك مما تمدهُ الموهبة بماهية تجانس الأعراق الاجتماعية عبر خصائص تشريحية تشترك في تأسيس هوية تستمد المغايرة العلمية المتطورة كما هو الحال في التغيَّرات الحاصلة عند الشعوب الأوروبية .
وعليه يجب أن تتوجه طلائع الشاعرات إلى وفاق منظور في شخصانية القصيدة أن تكون مبنية بناءً محكماً، على جهة المُحَصن الفكري الذي نجده يتقدم على الكثير من الشاعرات العربيات في مساق مناهل الشعر، إلى مقاربة تسود ازدهار الصورة الصوتية أنْ توحى إلى أفق معرفي، بما تبغية المقارنة التي توافق تحصيل مقاربة إجراء واسع الاختلاف الحاصل في تفاوت المكانة الشعرية المعكوس في نحوها المتماثل بين شاعرة وأخرى، وفي حقيقة هذا الرأي لا أقصد المواجهة في تمثيل الجناس الشعري الذي ترسمه حصانة التوافق الذاتي، بالرافد المعنوي المتخيل القادر على أن يخضع الشعر لضبط قواعده الخاصة، وهذا قد لا يكون حاصلاً عند شاعرة قصيدة النثر، باعتباره يعتمد سهولة النطق اللساني بالحرف، الذي يطابق المكالمة اليومية، بدءاً من الخاص وانتهاء بالعام، والفارق بين قصيدة العمود والنثر فالأول هو الشعر، والثاني ما يقارب أكثره جناس إنشائي، لأن الشعر الكلاسيكي هو المنبع الحقيقي للأصل المحرز للبنية الشعرية، بحكم تاريخه الأدبي العظيم، ومن أجل هذا ومنذ بداية قصيدة النثر ولحد يومنا هذا لا يجوز التوافق بين الحالتين.
من حيث وقع اختلاف الزمكان المستحدث في خاصيته التوليدية، الذي من خلالها يشتق الشاعر اقتناء الصورة الشعرية بتأثير معاشرة الجو المحيط، فإذا راجعنا رأي الخائضين في هذا العلم المقارن في الظاهر البنيوي المشترك في سبك تهذيب القصيدة بين عصر أمرئ القيس وبين عصر عبدالوهاب البياتي، فلا يوجد ما هو في محاقلة الرماح والسيوف والخيام في زمن البياتي، ولا قصيدة النثر والحزبية والتصنيع والكهرباء في زمن أمرئ القيس، ومن أجل هذا فإن الشعر ميال للاختلاف حسب المعاصرة، والدليل الواضح في عبقرية السياب عندما ركز على حداثة التغيير في شاعرية التفعيلة، أي ما أحكم المراد عند البعض في سياق تبديل المُسَامَرَة الشعرية، وفي رأينا هو تخصيص المَس فيما يقضي وزنه في حق الأركان الشعرية، بعد أن أصبح النص النثري واسعاً ومكثرَ التداول والاستخدام بموسوعة عمت حتى أخذت تحاكي المنشور اليومي المختلف، باعتبار المقود الفني في شاعرية تحاكي نفسها بنفسها مثل “قصيدة الهايكو المستوردة المبعثرة”، بينما تكون نصوص التفعيلة ناطقة بما يحتمل التأويل من جزاء الحكمة الشعرية التي تداولت بين الشعراء أو الشاعرات العرب، بشرط النظم المعيون في تخصيص بنية الأوزان المشتقة بحول اتساع وشمول المعاني الملائمة على ضوء مشتمل تخليص مفاهيمها المعاصرة، حسب تضمين الصورة الشعرية الجاذبة للتلقي.
وبذلك تسامى الشاعر المعاصر أن يجعل من قصيدة التفعيلة كحالة راسخة في الوجود الصائن بيانه في المنشور اليومي على صفحات الصحافة الورقية، بخاطر إيمان بأن الشعر لبس ثوب الحداثة وتمثل بالعفوية بوازع صقل الوجدان المنتج للتنوير المعرفي، من وازع إنماء الأحاسيس وتكوينها وتوجيهها على أن هذا اللون الشعري لا مرد منه باعتباره تبوأ الصف الأول في قيام القصيدة العربية المجايلة، استناداً إلى ما قدمته الخطيب من إحياء يرتكز على قواعد مستوى قصيدة العمود التي ما زالت تتمتع بالاحترام الواسع في مقامها الملحوظ من منظور الحركة الأدبية العربية عموماً بخصوصية ذات شأن، خاصة في متناول علم النقد العربي الثقافي، الذي قدم دراسات واعية ونافعة، بما أجاد به الناقد البصري العراقي د. سلمان كاصد، الذي حدد معالم خاصة تنساق في البحث والتحليل في توثيق التجديد، فأثاب ينزه صفات الشعر في دراسة تقيم لحقيقة الشاعرية الحلم الواهب، على أن الشعر ينساب من التصوير الموحى بالرؤية والمقام المقبول في سائر منابع النقد الثقافي كإنتاج أصيل في جوهر امتياز الفراسة البحثية الأسمى.
وعلى ضوء ما تقدم نشير إلى أن القصيدة الحرة توسعت تمثل الفوقية الشاملة عند الغالب الأعم من الشعراء والشاعرات ممن راعَيِّن مبادئ التراث من حيث تناص القصيدة الكلاسيكية بتمامه الملحوظ في شاعرية الرصافي، وهو اللون الدال على معنى بذاته من لزوم التداول بالمفاهيم الحاصلة التي تفسر لنا غاياتنا وحاجاتنا على مبدأ أن الشعر لغة زمنية خاصة يعبر بها قائلها عن منظور يحاكي المرتبة الفنية بوعي منه ينبري بوحيه من واجهه التمدن الثقافي، كشأن يعالج المعاناة الإنسانية، المعبرة عن استتاب البنية الخالصة من الأوهام الغاوية في المجتمع الذي هو محط اختلاف العلاقات على ما يفسر إلى حد يعيد تقبل الأفكار لبعضها البعض، باستثناء بعض المعالجات الجزئية التي تلازم جفاء التقنية في الفكر المنبعث بقدرته من موقع النحو والصرف. وفي هذا الخصوص علق الأصمعي على تراجع حسان بن ثابت في شعره قائلاً: “والشعر نَكِدٌ، بابه الشر، فإذا دخل في الخير ضعف، وهذا حسان بن ثابت فحل من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره.”3
أما فيما تواصل تنقيحه بإدامة الشعر من نفاع ووهاب رؤية الشاعرة فتلك كانت وما زالت تمثل الاتجاه الحقيقي الذي يحافظ على المقدار المعرفي في مخاضه الخاص، مقابل بما اصطلح على تسميته بقصيدة الحداثة، ونحن هنا نلتزم بتناولنا للمعترك النقدي بمتابعة الأعمال الشعرية المركبة بالإفادة عند الشاعرة النجلاء نبيلة الخطيب، بتأثير طُهْرانية حافزها المحكم في ملقحة متخيلها النوعي المرتجل حسب اعتقادي الواضح في بيانها الشعري، الملتزم بمأخذه العيني الرافد لحقيقة وجودها المتقن والمعيون في سياق القصيدة العمودية الواضح في عفويتها، مع اختلاف خصوصيتها بين شعراء الحداثة الذين بَسَطوا الحالة الشعرية أن تتفق مع المعاصرة في توليد تقنية تحاكي المسار التطوري المجدد في القصيدة المستحدثة عند الشاعر اللبناني شوقي أبو شقرا، الذي تناص بوفاق مع قصيدة التفعيلة فأجاد في إحكامها، ضمن التطورات الشعرية المنسابة بالواقع الأدبي المتأصل كيان ابتداؤه بالموروث الشعري العربية على اختلاف سماته وصفوة مفاهيمه، فاتجه شعراء لبنان به من الجانب الذي حسنت حاله، ومنهم الشاعر السادر شوقي بزيغ، والشاعر عباس بيضون، جنباً إلى جنب مع شعراء وشاعرات العمود الحاصل بيانه في الرفد لحركية شاعرية تطورات القصيدة العربية في التفعيل، مُجَنَبَّة عن الغثاثة والرداءة .
بلغة أشد بما تحتمل من ايضاح اشتمل عليه المألوف المنتظم في حداثة الموزون الشعري الأكثر صحة توازي اقتضاء توليد حديث استلزم العلم الطيَّعْ متحد الحداثة.
وفي سياق الحركة الشعرية العربية برزت شاعرات عربيات على قدر واسع من الأهمية في بعض الدول العربية بالدرجة الأولى ومنها العراق، والمغرب، وموريتانيا، والسودان، ولبنان، وما تبقى من الدول العربية فقد قل فيها العدد الموجود كما هو الحال في الدول أعلاه، خاصة على المستوى الذي نحن بصدد تناولنا المطلوب في التعينَّ والاختيار الأدبي، بما اقتضاه محتوى كتابنا الوحيد الذي جمع أسرة من مناخ يعتلي الصفوة لكل شاعرة تلاقي مَرجئة لمرسلها الشعري يحقق لها مكانة تؤثر على صفحات التاريخ الأدبي العربي، ولنا أن نشير بعمق واضح إلى أن الشاعرة الخطيب وجدتها تتعمق في بنيوية القصيدة الشعرية من رؤى عصامية تجلت في مذهبها الفكري الذي يتحد فيه التلميح الاحداثي المحصن في محاوره المتمثلة بقرين مناهل التراث في علم البديع المسدد، في إتقان الصرف كما هو الحال الفني الوارد في اجتذاب التواصل في أصول اللغة العربية الصحيحة، ومحصلة الالمام الظاهر في علم العروض، والاغتناء بالملكة الواهبة للشعر الموزون بقدرة الشاعرة على اختيار البحر المتفق مع قصيدتها، كذلك اتقان البدائع اللفظية، واستيعاب التفاعيل أي أقسام الكلام بمكانها.
ومن أجل ما تقدم وما احصينا ووضحنا على أنّ مكانة الشاعرة توضح في اتقانها أصول العلوم بما يتفق مع وعي حالة التوريد بخصوصيته الذاتية من موروث إلهام توليدي يتفق مع قراءات تعدد مصادرها، وهنا نجد الخطيب تتكيف على ضوء المرتبة الكلية من وصول مهواها الشعري الناجع إلى مكنون البادئ، وهي تصطحب التوازن التقني المتفوق في أرفع موضع، فالشاعرة التي تمتهن الفطرة والتمرس بالنظم الصحيح تجدها تحكم النضوج المبني على سخاء هويتها الأدبية، ذات المنهل الإبداعي الذي تتزاحم فيه لذائذ نفسانية مستنبتة المركب الحيوي، الوارد نضوجه من رؤى وأصداء تتحد مع
3 – النعماني، عبدالعزيز: فن الشعر، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى، 19.
عاطفتها المعنية بجذب القارئ، في النص الذي يجده مفضلاً لديه، في مفهومه المناسب لترجيح تهييج المحاورة المطلوبة في المعنى بين الفطرتين وهما النحو في مقصده النظري، والحكمة الدالة على الاستثناء البديهي عند الشاعرة. وفي هذا التتويج يصاحب السجع تثبيت المعاني على قرارها ومقصدها الذي يكشف عن حقيقة تُميّز الاستثناء في بنية النص الشعري. وفي هذا الخصوص يدلنا علي بن أبي طالب إلى حكمة: ” السخاء ما كان ابتداءً، فأما ما كان عن مسألَةٍ فحياءٌ، فلا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب، ولا ظهير كالمشاورة.4″
وهذا مما يدلنا على أن اختلاف المواهب الأدبية التي حققت السياق الفني المختلف في الجناس إنما هو الإبانة للحالة التوليدية الماهرة في المنظوم الشعري، من خلال الظاهر في نتاج الحكمة على اختلاف فصيح السياقات المحدثة فيها، أمّا ما اختص بالجو الذي يمكن للشاعرة الإبحار فيه إلى حد بلوغ إشاعة الرعشة الفجائية أنْ تسري بأجود كلمات الشعر المركب التام، حيث نجد الخيال يصاحب تثوير الموهبة المُرسلْة حيث المُسامرة الموجبة بالامتياز، وهو ما يوافق المطلوب اعتماده في المسار الفصيح المتميّز في
3- ابن طالب، علي: كتاب نهج البلاغة، مطبعة الاستقامة، الجزء الأول، شرحه محمد عبده، الطبعة الثانية 1885، ص164.
أسلوبية تتخذ من المجاز العقلي رافداً معنويا، يتواصل مع المشتق من خيال يختلف في بلاغه النطق الصحيح، بلغة تعبيرية خلقها العربي لاعتزازه بحسن ما فتئ الشعر يتوسم فصاحة التعبير، فقد تبارى العرب بالمنطق المجرد من الخلل منذ قديم الزمان ومنهم الفقهاء والشعراء أمثال عيسى بن عمر الثقفي، وأياد بن لقيط، وقيس بن ساعده الايادي، وطرفة بن العبد، وأبو الأسود الدؤلي، وعلي بن أبي طالب، وصالح بن إسحاق الجرمي، وحماد بن سلمة، وابن جني، وآخرين كثر، وهنا فالفصاحة كانت ومازالت القيمة العليا التي ترسم درجات الشعراء، وتحدد ميزة كل شاعرة لوحدها، أو شاعر لوحده، شريطة ثقافة ومعرفة ومكانة الحالة الإبداعية بالإشادة والتقدير، وبهذه القيمة تستطيع الشاعرة أن تنال اعجاب القارئ، والناقد، والمدرس، وليس لي إلا أن أعترف أن الشاعرة الخطيب استحقت أخذ مكانتها في كتابي “التباين في الشعر النسوي العربي المعاصر” باعتبارها تمتلك اللسان الفصيح وثبات البديهية المحكمة في علياها، الذي أجاز النظم من أحسنه، فقد وجدتها تجعل من إثارة لغتها الشعرية مفتونة بطلاقة فصاحة اللسان، ولأن حالها الشعري بديع الخصوصية مع البعض القليل من الشاعرات العربيات المستحب شعرهن، إذن وعلى ضوء ما تقدم في رأينا الخاص من معيون تناولنا الشاعرة العلياء نبيلة الخطيب، ومن مدخل علم الصرف في شعرها الذي سوف نتناغم معه بالدقة والمحايدة، لأنها شاعرة لا يحد رأيها إطراء أو مجاملة، بكونها امتازت بفصاحة البديهية والجرأة اللبقة، في صواب قصيدتها وهذا بحساب ما نأتيه بالشرح والتحليل المحايد في مُدرك صورتها الجِسْمِيَّة:
قصيدة: هل جادك الوجد؟
هل جادك الوجدُ والأشواقُ تحترقُ
وأمعنَ السّهدُ في عينيكَ والأرَقُ
فدّيتَ مِن عاشقٍ لا يستقيمُ لهُ
إلاّ التباريحَ في الأضلاع تختفقُ
لزفرة الآه نارٌ فطّرتْ كبدي
وبات منها الحشا يغلي ويستلق
قبل أن ابدأ بالحوار مع مزايا الأبعاد الفكرية عند الشاعرة الأردنية نبيلة الخطيب، يجب أن نعاين المشاعر والأحاسيس الكامنة من وراء ملمس الحالة الإبداعية وروِّحِها المؤصلة بالتصور المعبر عن سوابغ النظم الفنية التي تبثها مراتب الصوّر الدالة على صنوف ثمرات إبداعها المنبعث من سرائر تُبرِز مكنون مشاعرها الحلمية كيف شاءت التَصَوّر في تفنُّنها وتصرُّفها الروحاني، وههنا تخلص الشاعرة إلى خلوة تكشف عن منزلتها المتخيلة، وهي تشاجي المعاني الوجدانية التي تفضي إلى المنبع الصوفي بوازع انسياب الباطن الوجداني إلى القارئ المثقف أن يعي الحكمة، بلغة يختلف تدفقها بوضوح ملامح سماتها الملبية لحكمة وسيلة التأويل الذي يستفيض مراتب الوحي، ومن هنا فإن اهتمامنا بشاعرية الخطيب يلزمنا في مواضع نقدية تلازم عيار النص الأدبي، بحرص يكشف عن التنوير الإبداعي المُتَبِعْ هدى الأوليين المنجلي في نحوها، عبر جناس تغذى على مهارة تحريك المتخيل النوعي في تجليات الذات الماهرة، من حيث فصاحة الألفاظ، وبلاغة المعاني، المحمول تصورها من مساق الخواطر والأفكار الحالمة، حتى تجري خلوتها تستخرج مزاياها المعنوية من كمائم تتصورها الشاعرة تنفتح على مزاجها المتخيّل، وهذا المنال هو الواضح في أغلب قصائدها، كما ورد في قولها: ” هل جادك الوجدُ والأشواقُ تحترقُ / وأمعن السّهد في عينيك والأرقُ / فديتَ من عاشق لا يستقيم له / إلاّ التباريح في الاضلاع تخفق / لزفرة الآه نار فطرت كبدي / وبات منها الحشا يغلي ويستلق ” ناهيك عن تناولها ما يحوج الفكر القومي من خاطر يحاكي الضمير الشخصي بالوقوف إلى جانب ما يمليه عليها الواجب الوطني، ومن أجل المُوَالاة الإنسانية لوطنها فقد أعارت وأجادت شاعريتها الحكمة الماهرة بأثر مستوى وعيها الذي تجلى في قصائدها التوليدية بأثر فيض فني يجانس معانيها الحلمية.
لا شك أن الفهم الموحى للشاعرة من معيون: “التلاقي الثقافي”، و”المشاعر الحسية”، باعتبارهما صفتين وجوديتين تتلاقيان في ميزان الكلام، الذي تسامى فيه تجانس مستوى ذوق السماع، والرفعة في النظم، حين يفضي الخيال الكلي إلى كيان لغوي محكوم بمعيار إعراب يُحَس متعة، من متناول بلوغ الشاعرة انفتاح مذهبها الشعري الذي يبسط التأويل الشمولي للنص، القائم بوازع وارث الالهام إلى ما يوافق مرسل الوحي في فرض الحالة الإبداعية بدليل قطعي، عبر التناص البديهي مع تراث الأوليين، خاصة بتلاقي حضور الفراسة مع إبانة الفطنة من منظور الماضي على يد مؤسس الحداثة في القصيدة العربية الشاعر بشار بن برد، ومن ثم ساهم الشاعر أبو فراس الحمداني في مفهوم التحديث، كذلك عند حبيب بن أوس الطائي “أبي تمام”، هذا من حيث السيرورة التاريخية، وصولاً إلى الحاضر المختلف في سياق الثوابت المتألقة بالتغيرات الاجتماعية، والفكرية، وخاصة في معالجة الميول الدينية المتخلفة بوازع اعتناق موروث الأحزاب العميلة، وهذا ينعكس بالسلب على الخصال المحمودة عند الشاعر المثقف اليساري، الذي بلغ حد الاختلاف في تفاعل معالجاته المقبولة في الوسط المؤمن بالحريات العامة، لأن النظم المعرفي الجمالي يجافي النمط الاجتماعي المتخلف.
ومن خلال الالتزام بالقدسية الوافرة في ميزتها الايجابية، بتأثير واقعية مرجع هذا اليقين الذي أصبح اعتقاداً راسخاً، حتى أنه أثر تأثيراً مباشراً وبارزاً في الفاصل الحياتي الكبير بين وعي تراثي سكوني عند الشاعرة، ومن ثم التمييز بالمعرفة بما هو متصل بالتجاوب مع الفكر الحضاري، وهو المطلوب المنظم للحرية الفردية باختلاف اشكالها، وهذا الاعتقاد تبناه النقد الثقافي، والعلماني التنويري، من جهة الذوق على يد الشاعر الخالد معروف الرصافي، ومن جهة أخرى أخذ العقل المحرض على الحريات النبيلة يراقب وارد الثقافات بين الذات المتمدنة بتأثير الاتجاه الفلسفي، كما هو الحال عند الشاعرة التي نحن بصدد تناولها، باتساع عمق تأثير التصوف المحكم في علنية النص الشعري عندها، يُشاد التَصَوّر الحسَّاس الذي يقوم على إبداعها المُحدِث، بواسطة إدراك خلوة تروي المتخيل التعبيري الخصيب، وذلك في نشر مضامين ينفذ إلى شأنها العاطفي الخاص إلى الروض الأريض أنْ يتواصل مع محيطها المختلف، وأن كان هذا الايمان موعظة تلين العقول من معيون عاطفي يلامس موضع العلم بمرجع التلاقي المُنَقح بالنادر الشعري. وهنا يدلنا الناقد الفرنسي ألبيريس قوله: ” أصبحت الكتابة الأدبية تمثل اشباعاً للمخيلة والعاطفة بعد أن اتضحت تعبر عن القلق والسرائر والمسؤوليات التي كانت فيما مضى موضوع الملحمة والبحث الاخلاقي والتصوف في الشعر4″.
لملمْ جراحَكَ فالأيامُ سادرةٌ
بالبين تُسلطُه سيفاً وتمتشقُ
فلا التّعَطّفُ يُجدي في توَدّدِها
ولا التماسُ الأماني حينَ نرتفقُ
بيداءُ بَيْدَ بها الأمواج صاخبة
جرداءُ يُحكِمُ في أنوائها الغرَقُ
يمتدّ حُزنٌ على أطرافِ بهجتنا
نمسي نُكفكفه فينا وينهرق
وللتواصل مع سياق هذا التوليف الذكي فقد أجازت الشاعرة للشخصية القابضة على الجزاء أن يعد التلقي حياة للغة غير زائل فيها العمق المعنوي الذي يعمد إلى وجه البيان الفلسفي عندها، وهذا ينم عن التعاطف الايجابي مع نحوّها المقبول لزومه من قبل القارئ، المتمثل سراجه في لغتها السليمة من الخلل والمباشرة والتعجين، مع أن التوشيح ومنتقى القريض في نسب المعاني يؤكد أنَّ مؤهلها الشعري وما له وفيه من نزعة تجديدية إحيائية أنه جعل من نسج الصرف يتخذ الحفاظ على مسار نوعي في لغة الخطيب، يحاكي متعة الإشراق والبيان، سواء أكان حرص الشاعرة على أن يكون السكون بحالة التلاقي يحكم الحركات الفنية في الصورة الشعرية، أم ينتهى به البين كما في قولها: ” لملم جراحك فالأيام سادرة / بالبين تُسلطه سيفاً وتمتشق” ومن هذه الرؤية نجد الشاعرة وقد بلغت الظن أن النصيحة تدور في حلقتها هي، لأن خطاب لغة التعطف كالقابض على الماء، ورأيها أن تستنجد بالأماني لتوضح أن البيداء أي الصحراء “بها الأمواج صاخبة” إذا كانت الشاعرة تعني ب”الأمواج” الرملية فهذا جائز لأنه استعارة تنشد بها المجاز، وإذا جاءت بالأمواج المائية من باب التشبيه الذي يؤخذ من الأشياء المُشاهدة، فهذا يعدّ خللاً يتساوى مع لغة التعجم، بدلاً من أن تكون الأمواج مائية جعلتها الشاعرة رملية دون الاشارة إلى توازن المقصود المحكم، وأمّا جرداء لا تسهل الوصول إليها وهذا ايضاً يخل بواقع الخلق لأن تيمة الجرداء تعني الخلو التام، وفي الوقت ذاته أصبح السياق النحوي لا يعالج موطئ البيان من حيث
4- البيريس، ر – م، تاريخ الرواية الحديثة، منشورات عويدات، بيروت- باريس، الطبعة الثانية، 1982، ص5.
تأثيره وصداه، حتى الرؤية المستعارة من البيداء لحالة التخصيص بالجرداء ضعيفة التوليف من تعيين بناء اللاقحة، لأن ليس كل بيداء هي جرداء، بكونها واقعة تمثل صعوبة الحياة المطلقة، والشاعرة في هذا السبك عند استعارتها للتمية “الجرداء” إنما أرادت التماثل بين المجاز العقلي وبين الاستعارة المشبهة ب “جرداء” إلا إذا أرادت أن تتقصى التوثيق في تهذيب المعاني من كونها واقعة تمثل صعوبة ليس لها سبب سوى استفراغ المعاني من دليلها، ومع هذا التفاوت في الرأي والبصيرة لكنها توسعت فجعلت من اللاحق أن يحترس على أن لا تكون المعاني مبهمة خاصة في المفهوم العام في هذا التوظيف الفني المتصل بيانه بالإحكام والمناعة من وقع يميل إلى أن يكون النص لا يعبر عن ما افضت إليه صورتها الشعرية القصية.
وعلى ضوء هذه الأسس المباشرة حيناً والمحكمة في أحايين أخرى تعبر في أغلب نصوصها المعتمدة والمتوافقة مع توشيح قوة الألفاظ الدالة على منتقى المجاز، على أن لا تفرق بين لغتها الإصلاحية المعاصرة، وبين ما جاء به النحاة المختصين وخاصة المؤسس الأول على مر التاريخ لهذا العلم وهو أبي الأسود الدؤلي، حيث وجدنا الخطيب تحاكي النص المحكوم بالأوصاف الملقحة من وازع دلائل الإعجاز بذاكرة الطباع الإبداعي المتأصل حضوره في حال استحصل النداء الشعري، باعتباره المتفاعل الأساسي مع الموهبة عند حصول المعطى الشعري، وهذا نظم يتمثل بحكمة مضافة التقدير في ذاتها، من التصور العيني في الترقي عبر تخريج ظاهر الصورة البيانية، حتى أن يكون التوليف مأخوذاً بقدرة الوزن، وبين سراج الكلام المنقح بأصالة تمدنت نظرتها، فإن كان جواب الضمير إلى الفاعل المتقدم يلزم رجوع المعاني بأوصافها إلى المُخاطب فهذا يُؤلّف ضرباً خاصاً من التأليف، أما المشاهدات والمحسوسات في اللون المجرد من العرفانية نجده يتوسط مقدار الموصوف من حيث المعلومة الخاصة، التي تبعد الشاعرة الخطيب عن الأولياء والسادة أئمة البلاغة مثل سيبويه، وابن مضاء، والجرجاني والغاية في هذا التعريف هو وصل يعالج التبصر في مقام تجارب الشاعرة، مهما اختلفت قدرتها على حاصل مقدراها الشعري، بدعم من قوة الذات الشاعرة أن لا تكون مبهمة الصرف، بل العكس من منظور مختلف نجد التمدن في شعر الخطيب بوضع سد منيع في خصوصية الذات محكمة القياس، ومُرْسَلَة الأوصاف في قولها: “يمتد حزنٌ على أطراف بهجتنا”.
له جناحان كالغربان يفردها
تنضمّ فوقَ أمانينا وتفترقُ
يُطِلّ مثلَ فضوليٍّ يُماحِكُنا
تطاولَ الصدرُ والكتفان والعُنقُ
ومعوَلُ الصبر كم ينبو ونشحذه
فهل عليه صخورُ الهمّ تنفلقُ؟
دنيا نلوذُ بأثواب الرجاء بها
والثوبُ منها رقيقٌ واهنٌ خَلِقُ
فكلما راحت الأحلامُ ترتقه
وهماً تضاحك منّا وهو ينفتقُ
نعدو، تكلّ بنا الأعمارُ لاهثة
وقد تمازجَ منّا الدمعُ والعَرَقُ
لاشك أن تلاقي المعاني في هذه القصيدة يعبر عن تجانس تفضيل الإفصاح والإبانة من وازع المهارة الشمولية في حكم الدلالة التي ساقتها الشاعرة إلى التركيز الروحاني المعرفي المكتسب من المركب الذي يتبوأ الذكاء الداخلي في أخذ السياق إلى فصاحة تجمع التنوير والارشاد، بمعين إجابات بنائية متصلة لا تخلو من التفاعل في مضامينها بحكم المراد وصلة المناجاة، أو الجهر بالدعوة على أنّ: “له جناحان كالغربان يفردها / تنضمّ فوقَ أمانينا وتفترقُ” وهنا أصبح التحميل في المعنى دليلاَ من مبدأ يُعرف على أنَّ كل شي يرتبط بشي، وشي عن كل شي بديلُ في غايات الأهداف والميول، لأن علم الكلام عند الشاعرة الخطيب تمثل بالرؤية التي تبدأ في التَصَوّرْ وتنتهي بالسلطنة من وازع منازلها، المُحصل توافقه من حيث إيقاع فنيتها التي تشير إلى الربط بين عاطفة المرأة والقصيدة في خاصية مشاعر عاطفية تناجي التمني الذي يداني المصير الايجابي، أما الحكمة في هذه الخاصية فقد شكلت التجانس في نظم القصيدة، من بلوغ التواصل مع الصفة من سلطنة تبدأ بها الذات الشاعرة حتى تعلن عن خبرها، لأن الضرب الفني يحكم التلقي بين غمار البعيد، ومليح القريب في نجوى المشاعر، والغاية من هذا التوارد الوجداني أن تُحكَم العلاقات موقعها الصحيح، وهنا نتوقف عند مصاحبة الرؤى الحاصلة في العيان وتحكيم الظن كما تتفاعل الذات مع سريان الشاعرية بالسلوك المحصن، والمهارات المكتسبة. وعلى ضوء سياق رأينا ننظر في بنيوية الشاعر الروحي الفرنسي بودلير قوله: ” أعيدوا النظر في كل ما هو طبيعي، في كل الأفعال والرغبات التي تصدر عن إنسان طبيعي وحللوها. 5 ”
نرتدّ نبحثُ عن ماضٍ تُنازعنا
ذكرىً تفيضُ بنا من طيفها عَبَقُ
تستوطنُ الشمسُ شيباً في ذوائبنا
وفي العيون لهاتيكَ اللظى شَفقُ
فما التّرَقّبُ والدنيا على سَفرٍ؟
وما التريّثُ والأعمارُ تستَبِقُ؟
وما الترَجّلُ والأيامُ عاديةٌ
دهماءَ تَصهَلُ إيذاناً وتنطلقُ؟
تظلّ تضبحُ لا تلوي على سَكَنٍ
مضمارها الأرض والدنيا لها أفُقُ
أيا الشفيقُ هي الأيامُ نافرة
من ذا يُلَجلجها شَكا ومن يثق؟
تعتمد الشاعرة الخطيب من موسوعة البيان وضع قوانين النحو على أساس المحمول المدوّر، وغايتها تلطيف سقاء المعاني بوضوح على أتمه، ولهذا جعلت من التشبيه رابطاً محكماً بالقدر المركب له، أنْ يحاكي ما كان ابتداءً من مسألةٍ تختص بأمور الدنيا، وتضع له الحكمة غاية في مثابة الأصل أن تستقي من وجود الوقائع العقلية مؤثرة الوجود في تيمة “الشمس”، وحالها تراقب الزمن أن تجعل منه ذكرى كما هو مخصص له، من منطلق النزاع الذاتي الذي استعارت له الشاعرة الماضي في قولها: ” نرتدّ نبحثُ عن ماضٍ تُنازعنا / ذكرى تفيض بنا من طَيْفِها عَبَقُ “، فكان من الطيف ما استوحت قناعتها أن الحذر واجب، ومتعة الحياة لها قياسات توجب الحذر، فتكون المعالجة البيانية أشبه بالوصف الرومانسي وحسب، الذي عبرت عنه بالشفق، ولكن في شيء منها غَيَّرَ السياق الفني الذي وضِعَت له استخدام الوعد في قولها: ” فما الترقب والدنيا على سفر / وما التريث والأعمارُ تستبق” وما بين الوصف والحذر شيء جاز به موضعه المختلف بواسطة منسوب “الترقب” من جهة، و”التريث في الأعمار”، والفارق ما بين الأمرين هو غنى النفس أن تكون صلتها على ما هي عليه الحياة في ما تكره وما تحب الشهوات أن يستفيق فيها العبق، وهذا يرتبط بالقناعة التي لا ينفد منها كائن ما كان، على اعتبار أن الحذر من الدنيا شفيع الطالب بما يراه قناعة، وفي هذا المعنى نلمس أن الشاعرة في لغتها لغة براعة الحكيم، من بهجة شعرية تديرها الخطيب كيفما تجدها نافعة للتلقي، ودرساً لمن شاء.
هل جادَكَ الوجد؟ هَدْهِدْ بعض ثورَتِه
فالهَدأةُ الحقّ حينَ الروحُ تنعَتِقُ
هناكَ لا بينَ نخشى أن يُداهِمَنا
ولا يقظ تدانينا بها فَرَقُ
نرتادُ في زمرة الأحباب صفوتنا
مَن عاهدوا الله أبراراً وقد صَدَقوا
فافرح لَعَمْرِ الذي سوّاكَ إنّ
لنا فيها حياة من النعماء تنبثق
تستمر الشاعرة الخطيب تعالج الوعد بالحياة وما فيها من خير تطلبه النفس، بعد تأملها الصفوة بين الأحباب وتداني الشاعرة معهم، والدنيا هكذا فأحوالها أشبه بالدعوة إلى ظلٍ أُلفه يعتمد طلب الذات بالعزة والمرام المعبود بالأرحام المتصلة أربابها بخضرة الدنيا، لأن اعتدال الفرد يتساوى مع حصيلة ذكائه، خاصة وأن العواطف نجدها في حين متفقة، بينما في أحايين آخرى موزعة النوايا، حيث لا دار به تجتمع ولا طريق فيه تلتقي، في قولها: ” هناك لا بينَ نخشى أن يُداهمنا / ولا يقظ تدانينا بها فَرَقُ ” والبين هو الشر أو الفشل في تجاوز الأخطاء، وأمّا نعت اليقظان ما تشير به الشاعرة إلى صحوةٍ فوجدنا أنفسنا على فَرقٍ يشاطرنا، ثم تعود وتحاكي الصفوة بين الأحباب هي المتعة والعهد، بعد هذا التبشير بالخير ورحمة التلاقي نجدها تتناص مع قول مألوف يفترض أن لا تتناص معه وهو: ” من عاهدوا الله أبراراً وقد صدقوا” فالأجدر بالشاعرة أن لا تحاكي الحكمة بمن ليس لها، فهذا يحط من قيمة أدبها وشاعريتها، وأقول أنَّ الاعتدال في الموهبة هي أن تتمثل الشاعرة بالتناسب المحكم كما كان الإحكام وارداً عند البلغاء مثل ابن رشد، والجاحظ، وابن دريد، وقدامة الكاتب، من حيث تأصيل مطلوب النزاهة في طرح مبتكر الشاعرة.
قد كان قلبُكَ نبعاً لا يغيضُ به
وُدّ فيقصدهُ الظامي ويَغتبِقُ
وباتَ ذكركَ زهراً نادياً عَبِقاً
يضفي على الشعر إيناقاً ويأتلقُ
كم جادك الوجد؟ هل كتّمتَهُ جَلَدَاً؟
فالصابرونَ لهم في المُرتقى فلَقُ.
إذن فالتشخيص المعنوي دليل يحاكي المعنى بالتشعيث بكونه يُعين المرام الذي تبتغيه الشاعرة لحالة تطلب الاستعارة من معيون المقام الشعري المنظور في الاستشهاد بالإيجاز، وهو ما أثار أو ريَّضَ النص التصويري من حيث توليف البيان في الصورة الشعرية التصويرية، لأن الشاعرة لاقحة الذكرى مع الصورة المركبة بالصوت والاضافات على ضوء حالة تطمئن النفس بما فضلت، بحساب أنها كانت في وحي اختير لها نسبة تشبيب بينها وبين الكلم المركب على فنية معلومة، تتفق مع تصريف التعريف على كنهه في الصورة الشعرية بكونها كثيرة الرجاء بالهدى، فالشواهد التي تثيرها المحاكاة تصطحب النحو إلى حيث مكانته الصحيحة، خاصة في اختيارها للقافية التي تلائم المعنى بجودته، ولولاه ما ولدت الجملة الفنية بإشاعة مرتبة خصوصيتها، لأن الشاعرة ليست رسامة والرسم بمعناه الفني يعالج الصورة أو المنظر بأكثر من قلم، وبحكم هذا المعنى المنتزع من أفكار تلاقح علمها بين المفرد “الشاعرة” والجمع المعني ب ” الحياة عامة” في قولها: ” كم جادك الوجد؟ هل كتّمتَهُ جَلَداً / فالصابرون لهم في المُرتقى فَلَقُ ” فيكون الأمر المرسل للشاعرة مجرد تمني يُصَيِّر الشيء بالشيء المحمول بين ما وضحته بين الوجد والسؤال الحاكم بمعناه، وهذا اعتبار بلاغي لا يخالف الواقع بشيء سوى الضعف في المطلق، بقدر ما يمنح النسبة حالة معنوية تبرز السياق اعتباره اللغوي من حيث بيان التيمة التي تعالج مُرَاءَاة خلق استجلاب يحكم البنية اللازمة للتجديد الذي يواسي وحدة بناء الجملة الشعرية.
وفي قصيدة أخرى نتناول فيها:
قصيدة: مزامير العشق…
عِشقٌ منفردٌ
تعزفه الروح
على وتر القلب المبحوح
يعزفني عمري امرأةً
في ريش حمام
لكنّي…
حين تضجّ مزاميرُ الحُب
على أرضي
يحدوني حربٌ وسلام
حين أهادنُ
تغزل أجنحة النار مدىً
من شفق التيه
في هذه القصيدة تختلف القراءات في الحوار الدائر بين الذات والمستوى المقصود في خطاب الشاعرة مع الذات الأخرى بين الحرب والسلام، وما ينصرف فيها من قوام لغوي له ما يجزي الفصاحة قوة الدليل ومحاصلة تأثير الجناس الشعري، ومنها ما تستخرج الألفاظ الذكية قدرتها على حصيلة أملاها الأدب العربي المعاصر، من رؤية الحد الذي ابتدأه السياب في قصيدته ” هل كان حباً” وهو ما سار عليه شعراء الحداثة سواء أكان في التفعيل أم النثر المركب، فأصبح الفرق واضحاً بين شعراء الأمس وشعراء اليوم، وفي سياق هذا التطبيق هل يكون للمعاني الممثلة بالأوهام شبه في تأليف المتباين في حال التئام الأضداد ببعضها؟ والسؤال أين يكون التمثيل الصحيح في التفعيل أم في النثر؟ حين لم يك ما يؤثر في الشعر منه تأصيل تلتزمه القصيدة المحكمة ببنيتها وفنها، فيحسب على الشاعر أو الشاعرة تمثيل المهادنة بالبراءة من توارد الأفكار في قولها: ” حين أهادنُ / تغزل أجنحة النار مدى / من شفق التيه “، إذن ففي استعارة المدى والشفق في هذه الصورة المركبة جاز أن نقول هو ما تعنيه الشاعرة بالحكى المنظوم توافده النحوي في نصها بوازع ما تستلهمه أفكار الشاعرة، وخاصة فيما احصت للشعر غايته بتيمة “النار”، والتوضيح في هذا أن من مبدأ ما ههنا أن يعبر عنه في المبتدأ، من واقع وصف صورة المرأة بمعيون خيارات مهواها الشعري الخاص، المتمثل بأسلوبية تستدعي الثناء المركب إلمامه في شيءٍ من الترتيب والتبويب المحصن بقوة تستأثر في شعرها تنسم النظم في جنس من الكلم بعينه، لأن الصفة: “ريش حمام” لا تتقدم على الموصوف: “المزامير” إلاّ أنْ تُزال من الوصفية، هذا لأن أدلتها التفصيلية تحاور الإصابة بالوقوف على المعنى، وهو فهم حدد غرض الشاعرة بوارد إحكام النظر والتأمل، بكون سياقها الذاتي يعتمد واقعية النواحي الفكرية، بتأثير خلوب القوافي بأمر يقع من الشعر فصاحة ألفاظه، حتى عُدت الخطيب شاعرة تستحق أن تنال شرف جمعها مع الشاعرات العربيات ذات الشأن المميز في كتابي، بعد أن نالت قصيدتها إيفاء الحضور الواسع من القراء والنحويين والبلغاء والنقاد على شرف التمييز، بالتمثيل الحاصل في شعرها بما نقرأ ونستطيب:
وتحلّقُ بي
بين فضاءات جموح اللحظات
وواقع نكران الذات
يا داود..
صمتي مشكاةٌ للكلمات
يحترقُ الصوتُ
بلفح الصمت
ووقع السوط
ووهج أنين الزفرات
من للملهوفِ
إذا اشتدّت آونةُ الضيق؟
أعتصمُ بلحظة ميلادٍ عاقر
تميل الشاعرة الخطيب إلى خصوصية التيمة التي تتمثل خلوصها من ركاكة القافية في أحايين متفرقة، المفترض أن يكون الائتلاف ناطقاً بالصوت المركب مع بعضه، ومصاحبة خيال التأمل الذي يأنَس ارتباط الجملة الشعرية بما قبلها وما بعدها بذات النطق الإيقاعي، ولا شك فأن قصيدة الخطيب باختلاف موازينها تتمتع بعمق التسامي العياني، لأنها لازمت الحركات التي يفرضها جناس العوامل اللفظية، وتقربها معجزة الطباق في وحدة انفتاح المعاني على بعضها البعض، وما يبعدها عن الضيق هو علم المقارنة في جودة مواطن الفعل الاصْطِلاَحِي الذي يحاكي ثقافة القارئ، بصحة بيان مخارج الكلام العفوي، وما يعتري قصيدتها من سعة التشكيل بالتسوير المشيد بالثابت الأوفر مقبولية، وكأني أجدني أمام بلاغة وفصاحة أبي الأسود الدؤلي في عظمته، خاصة بعد تنقيطه للقران، بكون الدؤلي من مدرسة الرجل المحصن بالقوة والإيباء والعلم المطلق هو علي بن أبي طالب، فلو قرأنا في التحليل والتعليل مقام هذه القصيدة الشيماء قولها: ” وتحلقُ بي / بين فضاءات جموح اللحظات / وواقع “نكران الذات” يا داود / صمتي مشكاة للكلمات / يحترقُ الصوتُ / بلفح الصمت” وهنا فالخطيب تتمسك بالمعنى المركب في دلالته وعصمته، وتحيل بعض معنى إلى المقدر الذي تؤمن به من منظور البحور التي تتكون من أربعة وعشرين مقطعاً مما جعل قولها يلازم معيون الفكر العربي وهو: ” ووهج أنين الزفرات / مَنْ للملهوف / إذا اشتدت آونة الضيق / أعتصم بلحظة ميلاد عاقر” بهذا تكون الشاعرة لاقحة العرفان بذاتها، وجعلت لعلمها امتيازاً موفقاً بين العلوم العربية، بوارد المنهج العام الذي وضعه سيبويه من بداية العصر الإسلامي وليومنا، حتى أنها لازمت النص البهائي، ومن أتبع من بدأ النشأة بعلمها المحكم، نتواصل مع القصيدة ذاتها:
وتظل مزاميرُ الغربةِ
تسفحني في الطرقات
حين تكفلْتُ
سدانةَ بيت الوجدْ
وقبعتُ بزاويةٍ
في صومعة الزهدْ
أتقصّى مفتاحَ الأسرارْ
سجدتْ لي
كل ملائكة الجنة
فاخترتُ النار ..
كيف يكون الشعر بريئاً في لحظات تنزيل الوحي بالنسبة، أو بالمطلق حسب ما تفلح به الشاعرة من وارد بيان الحلم، ومن هذه المذاهب قول القرآن قول: ” وما الحياة الدنيا” وكأن الشاعرة تشرح لنا هذه الحكمة القرآنية في حال الحياتين في قولها: ” وتظل مزامير الغربة / تسفحني في الطرقات / حين تكلفتُ / سدانة بيت الوجد / وقبعتُ بزاوية / في صومعة الزهدْ / ” فالشاعرة هنا تدعو إلى الذات في قَسَمها على طرقات الغربة وقد احتمت في صومعة الزهد، وبهذا يدلنا المعنى إذا أصرَفَتْ الشاعرة نحوها فسوف تمتهن التلقي، وتظل آتية بالهداية في بيان الإشارة إلى يوم العهد، حتى يستطيب في النص نحو يعانق مجرى السبك باحتساب لغة تستعير فيها المزامير أن تقول قولتها، من منظور الغربة التي طوحت لها الشاعرة من واقع الاستعارة وجعلها مجازا يحاكي العقل، بما هو متبع وما هو مستولد بقلم شاعرة منسوبة إلى العمود الكلاسيكي، في بلاغة تَوَّجَها الجواهري بالحداثة، حين أعاد للشعر موقعه الصحيح بعد موت الرصافي والزهاوي، وأما قولي المجدد للحقيقة نقول أن الشاعرة الخطيب تكلفت بسدانة بيت الوجد، ترى هل يُقترح عليها اختيار صومعة الزهد؟ أو هو الشعر يلتقط حَوْم الأسرار، كما لو أنها تأخذنا إلى أبواب التشبيب ليكون التقصي نوع من أنواع التمني: ” أتقصى مفتاح الأسرار “، .
وفي ملحمة شعرية أخرى نتناول ما نُظمَ في التجديد من مرح شعري بقصيدة عنوانها: يا عازف الناي.
قصيدة: ياعازف النايْ..
ما أبكاك أبكانا
يا عازفَ النايِ صوتُ الناي أَشجاني
قل أَنتَ بيتاً وخُذْ من آهتي الثاني
ما كِدْتَ تنفخُ حتى باحَ ما كَتَمَتْ
أنفاسُ صدرِكَ من حزنٍ فأبكاني
* * *
ربما أجدني أمام رابعة العدوية في التنامي في مقام العرفان المتدرج في قواعد تأصيل البناء، لكن هل الخطيب تستوفي فلسفة رابعة؟ بالتأكيد لا، لأن استدعاء إبداع الآخر لم يك إبداعاً ذاتيا ذا حصيلة مماثلة، وفي الوقت ذاته فأن رابعة أجادت الفلسفة والحكمة والعرفانية أقصاها، ولكن تبقى الخطيب شاعرة مسك الكلمات تثير المشاعر، في قولها: ” يا عازف الناي / ما أبكاك أبكانا” هو التكامل والتلاقي بينها وبين عازف الناي من حيث الوارد بالاعتقاد الذي يلامس الحقيقة، لأن جملتها تحاكي المجاز المركب بأفعاله، أما والواقع فهو مرسل ما بينها وبين أنين الناي الذي تسامى به أنينها، وحالها بما تطلبه قد أحزن العزف وارد حزنها بالتواصل والمشتكى، لأن الصوت المعبر عن المعنى في تمثيلاته الناطقة يسند القناعة بتأثير التسوير المشيد على نفسية الشاعرة بفتح أكمامها، لأنها جانست فصاحة الشعر ببلاغة العزف بالقلم، فأصبحت المشاعر اللحنية تساقي بعضها البعض، أي أن الإبداع البشري يحاكي السامر الحاني بمذهب الناي، والشاعرة تناجي الصورة الصوتية بعزفها على مذهب رياض المعاني، فكيف إذا كان القارئ المثقف يشعر بالعواطف كعاشق بعد تحليل المفاهيم المنسجمة بين الشعر والموسيقى، وفي الوقت ذاته فإن الشاعرة هي أم، ودنيا، ودونها لا توجد حياة بحكم المعنى والدليل. وبهذا يقول فرديناند سوسير: ” أن الدلائل هي وليدة القطائع المعرفية التي عرفها القرن التاسع عشر، والتي أثرت تأثيرا عميقاً في كل مناحي العلوم الإنسانية 6″.
فالعزف يحيط الشاعرة الخطيب بالألفة، إذن ما الذي يريده العازف حين تشاركه الشاعرة دون علمه بقصيدة روحانية موسيقاها أشبه بالعزف التصويري الرحماني كما تقول: ” يا عازفَ النايِ صوتُ الناي أَشجاني / قل أَنتَ بيتاً وخُذْ من آهتي الثاني / ما كِدْتَ تنفخُ حتى باحَ ما كَتَمَتْ / أنفاسُ صدرِكَ من حزنٍ فأبكاني” وهنا فالشاعرة تكشف لنا نبرة الإحساس المترع بالخيال في الصورة الحسيّة، من منظور المناجاة الكامنة بمؤثرات الظاهرة الفنية وارتباطها بالمدى غير المرئي عندما تناص خيالها مع خيال العزف الموسيقي، وهذا ما تحدده الرؤية الفنية في مقامها وبعدها النحوي المباشر على السمع، بواسطة اطلاق محتوى النص بسهولة يرتضيها القارئ، ولنقل للخطيب إنّ البيان المعنوي في المنظوم والمعلوم واضح التجليات من أعذبه، بأعتاب مفهوم شعرك له شأنه الخاص بمحكم الاستجابة لطلب التلقي ما بين الصوت في الصورة الشعرية وجناس المشاعر، على ما تكشف الألفاظ من إحكام يرتقي بالمعاني النفسية إلى سراج عاطفي بليغ، لأن المناظرة النفسية آتية من العقل الشعري قبضاً وبسطاً، يجانسها التضرع الروحاني، لأن قصيدتها العرفانية هذه شاورت أمرأ القيس على الأقل في تراثه الكوني، فكيف وعزف الناي من أوحى للخطيب أن تشوق ذاتها لحن ذات الناي.
يا عازف الناي شَدْوٌ ذاك أَم نوحُ؟!
أَراك تبكي، أعزَّ القول والبوح؟!
أَضعتَ خِلاًّ أَم الدنيا بأكملها
أَم غارَ فيكَ إلى أَعماقك الجرح؟
* * *
وضعت الشاعرة تمثيل المعاني أن يكون تعبيرها ظاهراً بالإضافة، أن يحكم الألفاظ الصوتية لكي تُجزي مشاعر تفوق لحن العازف في العطاء والنماء، أن يجاري ما اكتسبته شاعريتها من ألحان وصوت الناي، وهي إنَّما حصدت هذا الامتياز من بيان جهة قصيدتها المحكمة بوازع مأتاه الفصيح كما تقول: ” يا عازف الناي شَدْوٌ ذاك أم نوحُ ” ففي معاينة هذا التمثيل تصافى أثره بين تحريك عاطفة النفس وبين المتصرف المتصوف في نبض الإحساس المتمكن من الجوابات الموحية بالإتقان والإمعان بالنظارة والإيقاع في خلايا المعنى الفصيح المشبهة بمقدور إحكامها في ثنايا اللغة، المحسوبة والجارية على بعضها البعض من منظور علم البديع، فأوَّل بلاغتها أنها أخرجت الخفي إلى الجلي بحكم ثقافتها العلمية التي تردهَّا إلى واقع علمها في بلاغة تبرز المعرفة دليلاً للبيان في جمع جهات النص، وأنا أشاطرها الرأي فليس كل جراح عليم، سواء أكان في العلم الجراحي، أم في تقنية السبك الشعري، أم في الجانب الذي يستبطن الخيال عند وروده للشاعرة في حال أن يناجيها الطيف اللحني فيسكنها، وهكذا نسبت الشاعرة الخطيب الشيء للشيء بشأنه الروحاني، بمكانه وعلمه وثقافته وطرازه.
ومن خلال مؤدى النظم الصوتي فهذه جملة شعرية واسعة المعنى تستوحي اتساع الفكر الفصيح إلى ما لم يُعلَم من جهة التناصح في نظمها الثابت في إحكام النظر الملبي لمستوى تسنيد القرار الشعري، في قرار يقضي أن تكون المعاينة سادرة تناشدها الشاعرة، ومن تساقي المفاهيم الدالة على جهة بلوغ
7- دو سوسير، فريناند: موضوع الدَّلالة بين بورس وسوسير، ترجمة حافظ اسماعيل، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الانماء القومي، بيروت، الطبعة الأولى 2000، ص101.
التشذيب كنظم التشبيه بالشفاعة لنفسها من نفسها، إذن فقصيدتها تلامسُ مناجاة الشفاعة أن تكون الحكم بين الناي والشعر بالتعيين الحاصل في الذات الشاعرة، من معاينة أحكامها وإن كانت تعني وصف الذات والتباهي بها، لكنها لمست النبض الشعري كيف يصاغ إلى ما تدركه الحواس بالضرورة في قولها: ” أراك تبكي، أعزَّ القول والبوح؟ / أضعت خلا أم الدنيا بأكملها / أم غارَ فيكَ إلى أعماقك الجرح؟” أما الحاصل في هكذا تتويج بنيوي نجده يتعمق أكثر كلما استمر العازف يشكي نَيّبَهُ أو يحن إلى ما يشتهي اللحن، لأنه يعالج التركيب والتوصيف والتشويق، وهو ذا يجيد المحاكاة بين الصفة والتمثيل البريء، والشاعرة تستجيب لشجن الناي بالألحان التي ينشدها الناي، وأملها أن تشاطر اللحن من بديع النظم وهو ينشد المنافسة بينه وبين ناي الشاعرة هو “الشعر”، على أن تطيعه في تثبت الشجن المدور على ما هو عليه.
يا عازف الناي ما أبكاك أبكانا
نبكي ديارا وأحبابا وجيرانا
ودّعتُهم سَحَراً والمر ملء فمي
والشوق أوقدَ في الأحشاء نيرانا
* * *
يا عازف الناي قل للناي عن ألَمي
وصِفْ سيولا جرَتْ من أَدمعي ودمي
لعلَّ لحنك يحكي ما أحسُّ به
فاللحن أَبلغ تعبيرا من الكَلِم
* * *
يا ساكب الدمع جفَّ الدمع من عيني
ظمئتُ فابحث بهذا القفر عن عين
لمّا تخافَتَ صوتي في مسامعهم
أرسلتُ أَسألُ عن أخبارهم عيني
* * *
جعلت الشاعرة من جملة: ” يا عازف الناي” المستهل الخصب أخذته بمذهب عزفه يناجي عزف مذهبها الشعري، بالتكوين والمعالجة والمحاصصة فتبدأ وكأنها تحاكي الزّاجر المدور بمهابة سُلم العزف بالعزف، أن يستمر ولم يزُل لحنه يثير شجو مشاعرها المتخيلة بفاعل العزف، بعد أن جعلت إيقاع الكلمات يطفو على ألم قد يؤرق الذكرى، وكأن الناي يعزف إمضاء على صفحة حياتها، لذا فهي تحتاط للمعنى بأرق مناجاة الصور الصوتية، فهي تختار الحروف اللاقطة للصوت من حيث ما تسمعه بأرْيَحَيةً في قولها: ” يا عازف الناي ما أبكاك أبكانا / نبكي دياراً وأحباباً وجيرانا “، وحال شعرها يجيب الناي أنه إذا طال لحنه ألقَى بين عينيها عزمه على الاستمرار، لأنه كما يبدو أنَّ نفسها امتلأت بالمشبه بين العزف والحرف صورة تناجي صورة، تحاكي بها الخاصية المقصود من غايتها واجتلاب يشترك بين حرفها القائل فصيحه لغة سامية انعكست على بلاغتها الشعرية، سواء أكانت في العمود أم في التفعيل بما أجادت فاستطاب الحرف العربي في لغتها كما استطاب في لغة الخنساء من قبل في حضوره الألق، بحكم أن الخطيب تنظر إلى تشبيه العزف بالشعر وتطابق حالته النادرة في قولها: ” يا عازف الناي قل للناي عن ألمي / وَصِفْ سيولا جرت من أدمعي ودمي / لعلَّ لحنك يحكي ما أحس به / فاللحن أبلغ تعبيرا من الكَلِم ” وهنا طوعت الإحساس باللحن فذلك الوصف شأنه أن يعضّد التعبير بلاغة من الكلمِ، فتكون المقارنة تحكم نوادر المكالمة بين مشاعرها المرهفة وبين صوت الناي الذي أغرم به شعرها، وهذا مُجاز لنا أنْ نسميه فيض البراءة، لأنها تخاطب الناي بالمفرد فتقول: “ما أحس به ” وتعني الذات المفردة في سبك المنظوم، وفي ملقحة البنية الشعرية، لذا فالصورة محكمة بما يكتنفها من معان تخاطب معنويتها أن تحيل المشبه به إلى توازن المواجهة، وهنا نستطيع أن نقرر ما قرأت من شعر الخطيب منذ صباها الأول وحتى اليوم، حيث وجدتُ شعرها يحتكم إلى البلاغة من مصادر اطلاعها المكثف بالقراءة والنقد، فلو قلنا في الإحكام وكما يعبر شعرها عن المهوى الحصين في المقصود بالجمع ومذهبه المُكَوّنْ فصيحه مدركا للمعنى، وما أجادت به الشاعرة في أغلب قصائدها تعدى الجمال النحوي.
يا ساكب الدمع جفَّ الدمع من عيني
ظمئتُ فابحث بهذا القفر عن عين
لمّا تخافَتَ صوتي في مسامعهم
أرسلتُ أَسألُ عن أخبارهم عيني
* * *
ما ذكرناه في تحليل قصيدة “يا عازف الناي” وجدنا النظم مبسوطاً في أرفع موضعٍ، في المقابلة، وعلو شأن التخييل الظاهر في محاكاة العين، بعد أن بسطت الشاعرة أن العين لا تخطئ في أمرها، فطوعت المشاركة بالسؤال المعني بالهجر قضاءه المعيون في قولها: “يا ساكب الدمع جفَّ الدمع من عيني / ظمئتُ فابحث بها القفر عن عين” فكان الهجر رابطاً وظفته الشاعرة كتخصيص يناشد البيان في ضيائها، وكذلك في الظمأ الذي سادها فحيَّر شأنها بالبحث في وسط القفر، وهو الفعل المدوّرْ الذي لا يخل به لا الوزن ولا النحو، لأنها ساقت السؤال عن أخبارهم بواسطة العين، فأصبح الجناس محط موضع لابد منه في الصورة الخيالية، باعتباره مُعرفاً بمعناه في الذات والصفة، وأمره في هذا السبك الحكيم يثير الظاهر من استظراف الرمز بقوة دلالته وإحكامه، لأننا لم نجد فيه من الغرابة بشيء، خاصة في تواصلها في مقطع آخر: ” لَمّا تخافتَ صوتي في مسامعهم / أرسلتُ اسألُ عن أخبارهم عيني” ما أجمل هذه المحاكاة الماهرة، فهي تشبه المتصلين في مناشدة العين بين “ظمئتُ” وبين “أخبارهم” باعتبار العين روح الحياة، فكان الاختيار خليق بالتماثل الذي اتسم به السؤال، بوازع البديع الذي نالته الشاعرة في نظمها بالتصور الذي يحرك قُوَى المناعة الهادية إلى كيفيتها أن تجعل من التبيين يناشد محاسنة بما توعز به الألفاظ من بلاغة في إحكام المعاني.
يا ساهد الطّرف أَمسى فيَّ ما أمسى
الموتُ قاسٍ، ولكنْ هجرهم أَقسى
أَمَا سألتَ نجوم الليل كيف مضى
ليلٌ على المرءِ لا يغفو ولا ينسى؟!
* * *
ولذلك أصبح العازف يأخذ سبيله لأن يكون لحنه عوناً على تواصل الشاعرة عزفها على الألفاظ من بحور بلاغة سحرها، وهنا يجوز لنا أن نُبَيّنْ ما اختص في هذا الحوار من كونه متلقياً لبعضه في الإحساس الوافر في الخيال، لأن مرامي السبك في هذه القصيدة أثار استيلاء تداور التباين بين محسوس المشبَّه “النص الشعري” والمشبه به “عازف الناي”، ومن أجل هذه الأحكام الحكم المسدّد لعقد آلية النظم بجمانة شاعرية الخطيب، الذي عيَّنت نظمها بما اختص باستدعاء الرموز كمصدر للمحسوس به، وهذ ما يحرك قوة النص في المطلوب عيانه الصوتي من حيث سقاء الملموس من الفكر الحليم، بقولها: ” يا ساهد الطرف أمسى فيَّ ما أمسى / الموت قاس، ولكن هجرهم أقسى” المقارنة بين الموت والهجر توافق مع الحزن بتأثير العتاب غير الواضح في نعتها وشكواها، أما الوضوح فقد حصل في سؤالها المراد منه بيان قوة المجاز في قولها: ” أمّا سألت نجوم الليل كيف مضى؟ / ليلٌ على المرءِ لا يغفو ولا ينسى!” في جملتها الشعرية الأخيرة تقول: ” ليل على المرء” ليتها لم تضع المرء في هذا المكان بكونه تفعيل مستقطع غير مناسب لأنها مزجت المرء بجناس مختلف، لأنها جعلت من “المرء” الشخص غير المشار إليه بالتخصيص لهذا المعنى لأنه في لسان علماء البيان “مقول”، وهذا يربك المقصود به، ويضعف من تلاقح الصورة ببعضها البعض، فلو قالت، ليل على “المراد” لا يغفو ولا ينسى، ويغفو هنا يكون مجازا يعمق التعيين على صورة أدق وأوفى تعبيراً وقرباً للشاعرة، باعتبار “المرء” يعني أياً كان، وهذا خارج عن المقصود به في اطار الوضوح والسياق الملائم للنص المحكم.
دارِ الجراحَ فلا يدري بها بشرُ
وقُلْ لنفسك ذا ما شاءه القدر
واصبر فإنَّ هموم النفس تفتنها
فخيرة الخلق نالوا الخير إذْ صبروا!! ٠
* **
الوضوح المحصن في هذا العلم الفني يساقي بديع خلق التفويض في السبك اللغوي والنحوي، حيث يتفق بينهما التماسك المعبر عن دلالة تقتضي تحرير مقصدها المركز على معنى بظاهرة، يحترز المراد السائر في معيون البديع المقصود بتوظيف ضبط الوارد على جهة إحكام الأحكام بين الجملة وأختها حتى توحد شاعريتها على نفس تنبض بمرآة البصيرة المعلنة في توحد الظواهر على ما تكون موافقة للعقل في نصها، لأنه إذا قام البرهان العقلي على سياق الحكمة المطروحة هنا فهذا يعني أنّ التشبيهات تصبح موافقة للواقع بوازع اللفظية الوضعية التي عبرت عنها الشاعرة بقولها: “دار الجراحَ فلا يدري بها بشرُ / وقل لنفسك ذا ما شاءه القدر / واصبر فإن هموم النفس تفتنها / فخيرة الخلق نالوا الخير إذ صبروا” بجناس الحكمة التي وضعتها الشاعرة أن تكون منزَّهةً عن الجسمية على جهة التخييل، حيث يكون ظاهر المعنى في هذه اللازمة تأويلاً حذراً على ما وضعت له الشاعرة.
الهامش
1- نيتشه، فريدريك: كتاب العقول الحرة، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2010، ص64.
2- النعماني، عبدالعزيز: كتاب فن الشعر، الدار المصرية اللبنانية، بيروت، الطبعة الأولى 1991، ص51.
3- ابن طالب، علي: كتاب نهج البلاغة، قدمه وشرحه الشيخ الأستاذ محمد عبد، مطبعة الاستقامة، مصر، الجزء الأول، الطبعة الثانية، 1885، ص164.
4- البيريس، ر- م، تاريخ الرواية الحديثة، منشورات عويدات، بيروت، باريس، الطبعة الثانية، 1982، ص5.
5- بودلير، شارل: كتاب دراسات في الأدب المقارن، مكتبة الفراهيدي، بغداد، الطبعة الأولى، 2012، ص 39.
6- دو سوسير، فريناند: موضوع الدلالية بين بورس وسوسير، ترجمة حافظ اسماعيل، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الانماء القومي، بيروت، الطبعة الأولى، 2000، ص101.
نبيلة الخطيب شاعر عربية من الطراز الرفيع لها قدرة كبيرة على تشكيل النص الشعري، وعلى تطويع الجملة الشعرية بلغة صافية المورد.وتتقن فن الصورة التي يعجز عنها الكثير من الشعراء في نصوصهم..شاعرة تكتب بمداد الروح وبحبر الوريد. تحيتي لكم..ولها.
الأستاذ الأكرم حسين عبروس تحية واحترام، نعم تحليلك دقيق ومقنع للغاية خاصة وأنّ الشاعرة المميزة د. نبيلة الخطيب تستحق أكثر مما أديت من معيون قد يكون موفقا إذا أحصينا عدد القصائد التي تناولنا دراستها، بوازع المنهج النقدي الثقافي في اتجاهي المعاصر، في الجزء الثاني من كتابنا “التباين في الشعر النسوي العربي المعاصر” ومع هذا فالشاعرة تستحق أكثر، آمل أنْ يسعفني الوقت للتواصل معها بدراسة أخرى، لكم دوام الصحة والخير والعافية، احترامي.