يعيش الانسان منذ خلقت البشرية متأثرا بما يحيط به من البيئة الخارجية مؤثرا فيها ومتأثرا بها ويشكل الفن بيئة اساسية تحيط بالفرد، ويحصل التأثر والتأثير بين الفن وبين الإنسان بصور فاعلة ومتداخلة، حتى يصعب الفصل بين تأثير أي طرف من طرفيهما على الطرف الآخر، فالإنسان هو صانع الفنون ومنها الدراما وغيرها من الفنون فهو منتج ومبدع لها وهو متلقيها في الوقت ذاته فالفن صانع ثقافة الإنسان ، وخالق لتوجهاته في شتى مجالات الحياة، وأضحى صعبا أن يتخلى إنسان العصر الحديث عن متابعة الفن بصرف النظر عن محل سكناه أو إقامته بفضل منتجات العصر الحديث ومكتسباته الالكترونية والفضائية وفي ضوء ذلك يصح القول ان الفن يصنع شخصية الفرد ويمنحها انماطا سلوكية مختلفة، وللفن القدرة على توجيه الناس لأي صوب ولأي تنظيم ولأي ثقافة ما.
ومع تطور الحركة الصاعدة للمجتمعات الانسانية (نتيجة تطور الصناعة وتطور الفكر الانساني وتوالي المبتكرات العلمية)، والانفتاح العالمي على الحياة، تطورت الفنون ووسائله التي تقوم بنقل الافكار والآراء والثقافات والمعلومات والبرامج والاتجاهات، وحصل التأثير على جمهور المتلقين سلباً أو ايجاباً، وكثيرا ما يؤدلج ذلك التأثير برامج التنشئة الاجتماعية وسلوك الفرد، وبخاصة الاطفال والشباب، بما فيها السلوكيات المنحرفة التي لا تمت لمجتمعاتهم بصلة، فهم معرضون للتأثر في سلوكيات غير سوية أكثر من غيرهم، ذلك لان تلك الفئات العمرية ما زالت في طور استقبال التعلم، ومازال عودها رقيقا ازاء استقبال الأفكار، فهي ليست قادرة على التمييز بين الجيد والرديء وبين الحلال والحرام، لاسيما ان هذه الاعمار تتوق دائما الى الرغبة في بناء شخصية مستقلة، غالبا ما تكون قائمة على التمرد.
وبسبب هذا التواجد الكلي لوسائل الفن وقدرتها على التأثير في عقول الافراد وجدانهم وسلوكياتهم ادى الى القيام بدراسات وعلى امتداد السبعين سنة الماضية ، وقد تضمنت مجالات متنوعة كالحملات الانتخابية ونشر الاستحداثات وتصوير العنف والشبقية والعنصرية ومثلية الجنسية والنساء وفي مجالات الصحة والتنمية السياسية والاقتصادية وقضايا الهوية والقيم في البلدان الانتقالية في مراحل المتقدمة نسبيا وتأثير وسائل الفن الايجابي والسلبي على حد سواء .
ومن هنا تندرج إشكالية مقالتنا هذه التي تتمحور حول مدى تأثير وسائل الفن على أيديولوجية وبيئة الفرد والمجتمع وبالتالي تأثيره في تغيير ثقافة المدينة ، فالسلوك حصيلة للتنشئة الاجتماعية عبر قنواتها المختلفة التي يمر بها الطفل داخل الاسرة ، فيكتسب من خلالها سلوكاً اجتماعياً يساعد على التفاعل مع افراد اسرته ويتعلم اول ما يتعلم وسائل الاستجابة لغيرهِ من الافراد من خلال اشباعه لحاجاته الحيوية وتتكون لديه فكرة ما ينبغي ان يكون عليه سلوكه ، قبل ان يكون قادراً على الكلام.
ان هذه المهام والواجبات التي يمارسها الفرد والتي تعرف بالسلوك لابد لها من قناة او وسيلة لتحدث الاثر المطلوب أو تؤدي الى عملية تفاعلية إذ لابد من “اتصال” لإتمام عملية التفاعل فعملية التنشئة الاجتماعية التي تحدث من خلال الفن عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعد احدى الوظائف المهمة التي تقوم بها تلك الوسائل كما أن عملية التنشئة تشتمل على تفسير وتحليل الاحداث في البيئة وتوجيه السلوك كرد فعل لهذه الأحداث وان اهم ما يميز الدور الايجابي لعملية الاتصال في اطر ومستويات التنشئة الاجتماعية في اي مجتمع هو قيام تلك الوسائل بإرشاد الافراد الى التعامل الذكي الواعي مع وسائل الفن (صحافة ، اذاعة ، تلفزيون، وسائل التواصل الاجتماعي ) بحيث لا يقبلون ولا يعتقدون بما تقدمه لهم وسائل الدعاية دائماً، بل يتفاعلون معها بعقلية راشدة وافكار واعية، وقد اشار الى ذلك ” البرت شرام ” عندما ذكر ان لوسائل الاتصال مثل التلفزيون دوراً مهماً في تنسيق الفهم العام والادارة العامة والتحكم الاجتماعي، اما اذا اراد احدما ان يثير معركة حول اجهزة الاتصال فما عليه الا ان يستعرض تأثيرها الاجتماعي عبر نشر الثقافات الدخيلة على ثقافة المجتمع والمدينة المتجذرة والاصيلة .
ونظراً لأهمية التوجيه المبرمج للفن والتلفزيون و مدى تأثيره في سلوك الفرد والمجتمع وثقافة المدينة، فان ملايين الدولارات التي تدرها وسائل واساليب جديدة للطرح الدرامي كأرباح سنوياً مستخدمة اساليب الاتصال الجماهيري لأحداث تغيير مقصود في سلوك الافراد على مستوى التفكير والاتجاهات اضافة الى زيادة وتحسين نوعية وكمية المعلومات لدى الافراد والجماعات وهو هدف اي عملية تأثير يقوم او تحاول ان تقوم بها وسيلة اعلامية معينة.
وتلك التأثيرات التي تحدثها وسائل الفن والاعلام يمكن تقسيمها الى تأثيرات كامنة وتأثيرات ظاهرة، كما ان هناك تأثيرات مباشرة واخرى غير مباشرة اي(التأثير على المدى الطويل) ونعني بالنوع الاول الاعتقاد بان لوسائل الاتصال الجماهيرية تأثيرات مباشرة وفعالة وهي شبيهة بتأثير الرصاصة السحرية، ونعني بذلك ان الافكار والمشاعر تنتقل الى المتلقي من المرسل دون قيود، وتحدث اثارها سواء كان التأثير سلبيا أم إيجابي.
لكن الابحاث العلمية الاخيرة دحضت هذه النظرية اذ اتضح ان الافراد لا يتلقون الافكار بشكل تلقائي بل انهم ينتقدون ويرفضون او يقبلون، وهذا يعود الى اتساع ساحة الاتصال بين الافراد ووجود البديل الثقافي والاجتماعي وتزايد الكم المعرفي والفكري والعلمي لشرائح اجتماعية لا حصر لها.
اما النوع الثاني فهو التأثير غير المباشر ويعني ان تأثير الفن في الجمهور يحتاج الى مدة طويلة كي تظهر اثاره، وذلك من خلال عملية تراكمية تقوم على اساس التغيير في الاتجاهات والمواقف والبيئة، لان الانسان يحتاج الى فترة زمنية طويلة ليتمكن من تغيير او تعديل نمط حياته،او اسلوب ونوعية تفكيره وهذا التغيير لا يحدث الا من خلال التعرض لمصادر معلومات تختلف عن تلك التي نشأ وتربى عليها في رحلة الطفولة المبكرة،وهو ما حققه الفن كمصدر من مصادر المعلومات، يختلف في الكثير من الاحيان عما هو سائد في المدرسة والاسرة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية الاخرى.
لقد اصبح للفن في الوقت الحاضر دوراً مهماً في صياغة ثقافة الافراد والمجتمعات بوصفه اداة التوجيه الاولى التي تراجع امامها دور الاسرة وتقلص دونها دور الاسرة وبذلك فقد اصبحت كلاً من الاسرة والمدرسة في قبضة الفن والتلفزيون اللذان يعدان منصة لبث الفن المؤدلج لجهة ما او نشر ثقافة ما ، وهذا ادى الى التحكم فيها و توجيهها ورسم المسار الثقافي والفكري والعقائدي لها ، ولما كان المحتوى الفني يقوم بتقديم المادة المرئية والمسموعة والمقروءة ايضا فأنه اكثر وسائل تغييراً واعظمها تأثيراً.
فإن وسائل الفن يكون لها تأثير كبير على الاطفال والمراهقين والشباب وبناء سلوكياتهم فأصبحت الاولياء الجدد بدل الاباء هي وسائل الاعلام والتلفزيون لأنها تغريه بقربها وبتلبية رغباته النفسية، ومن هنا أصبحت وسائل الأعلام تحل بديلا عن الأباء وتصبح أشبه بأولياء أمور تلك الفئات العمرية ؛ بل أمست بمثابة الصديق الحميم لهم، لا يقوون على فراقها مثلما لا يقوون على فراق الأنترنيت، وهذا ما ادى الى ظهور التفكك الاسري واكتساب سلوكيات غير صحيحة وبث السلوك العدواني سواء العدوان المادي او اللفظي أو التمرد على الاسرة والانحراف الديني والاخلاقي .
وبغياب الرقابة والحصانة من قبل الاسرة بالمرتبة الاولى والدولة بالمرتبة الثانية انتشرت حالات وسلوكيات غير سوية منها تعاطي المخدرات والقتل والتحرش الجنسي وغيرها من السلوكيات الدخيلة، اذا عملت اغلب وسائل الاعلام والتلفزيون وبخاصة الدراما الى رسم صورة شخصية اسطورية خيالية لأفراد العصابات وما تمتلكها من نفوذ وقوة تحببها لدى المتلقي ، وتصور العلاقات الجنسية بين الطرفين على انها ثقافة وهو أمر دفع كثير من الناس وبخاصة الشباب الى التخلي عن اصول عقيدتهم ودينهم، واصبح الدين والانتماء الديني يمثل تقليدا قديما في أذهانهم، لابد من التمرد عليه والتجرد منه والاقبال على كل ماهو جديد والانغماس في المحاكاة والتقليد لما هو وافد من تلك الثقافات التي تروج لها مجاميع تدعي أن تمثل الفن الحديث أو المعاصر؛ وهي في حقيقتها بعيدة كل البعد عن الفن والرسالة السامية للفن والثقافة والذوق العام بغية النيل من المجتمع والشباب لانهم يمثلون الصرح الاساسي لبناء الامم، فبدون وجودهم لا صلاح للمجتمع