
في اليوم العالمي للغة العربية قد يحدث أن يخرج عليك شخص يرى نفسه على صواب انطلاقا من فهمه الخاص لمرجعيات معينة، معتقدا أنه يتحدث بكل موضوعية وليس منحازا لمشاعر تمارس تعصبا غير معترف به :
نحن لسنا عربا حتى نحتفل بالعربية أو يومها العالمي، لدينا لغتنا اﻷصلية واﻷصيلة، وعندنا تاريخنا الخاص..
لا أتحدث عن شخص بعينه أو حالة محددة، ولكن يحدث هذا، يتجاهل المرء عن أي شيء يتكلم أو ربما هو يجهل حقا أن اﻷمر يتعلق بلغة، قد لا تنتمي أبدا إلى الحضارة التي أنتجتها أو أسهمت في خلقها وتطويرها ولكنك ستعرف بأنها تستحق مدحا حقيقا بما صنعته بسحرها وما تحفل به وما تحتويه.
طبعا يصعب أن نخلِّص اللغة من مختلف الحمولات التي تلتصق بها، فهي ليست معزولة عن التاريخ واﻷحداث والثقافة، ولكن في المقابل ينتظرنا عمل شاق لجعل اللغة جزءا من كياننا سواء كنا ننتمي إليها وراثة وإن كان يصعب تعيين من ينتمي إليها بدقة متناهية، أو كنا ننتسب إليها بسبب ظروف فرضتها علينا أو اخترناها أو انتقلت إلينا بأي طريقة كانت.
أي لغة هذه قد تشكل عائقا أمام جماعة استطاعت أن تستوعبها وتخلق منها معطى ثقافيا وحضاريا ذاتيا؟ أي لغة قد تستمر في البقاء داخل هوية مستلبة إن لم تكن تلك الهوية في اﻷصل غير قادرة على فهم نفسها أولا واستثمار واحتواء ما تعتقده لا ينتمي إليها ويجعلها مشوشة وضائعة؟
لا يوجد شعب خالص، ولا لغة مغلقة خاصة، ولا ثقافة معزولة عن العالم، لهذا فالاحتفال باللغة العربية هو في جوهره احتفاء بعنصر من مكونات مجتمع ما، له فرادة وحضور في ظل ذلك المجتمع وميوله وثقافته وخصوصيته، وإلا فإنه مجتمع تحول بينه وبين المصالحة مع لغاته وعناصر هويته جهل وعصبية وانغلاق مفتعل. إن الرفض ينم عن عجز كبير في التمييز بين اللغة كمعطى حضاري وثقافي وبين أفكار وأطروحات معينة تمت صياغتها أو معالجتها بتلك اللغة التي نشعر بحساسية مفرطة تجاهها قد تصل أحيانا إلى رفض التحدث بها وتصنع إنكارها وتجاهلها بفجاجة وصبيانية مفرطة.
في اليوم العالمي للغة العربية، أي عاقل قد يسب الفرنسية مثلا ويدعو إلى إحراق ما كتبه روائيون عرب بها؟ هل يصعب مثلا تحديد مشكلتنا كمغاربة أو جزائريين مع الفرنسية؟ خارج السب والشتم وادعاء الاستلاب والانتصار للهوية اﻷمازيغية والعربية؟
العالم يتجه نحو الجنون السلبي بسرعة كبيرة، كما لو أنه لا توجد أي فرصة للتوقف والتفكير والفتك باﻷوهام وإعادة النظر في مفاهيم مثل التنمية والتقدم وإعادة النظر في مفاهيم مثل الهوية والانتماء ومكونات الثقافة لمجموعة أو مجموعات ما؟
أرى كل هذا معقدا جدا ولا شيء في الواقع يشي بإمكانية للخروج منه بشيء جيد وجميل قريبا. لذلك، وببساطة يمكن القول بأن إنجليزيا يستطيع أن يحب العربية ويكتب كتابا بها دون أن يشعر بنقص في هويته أو استلاب يأتي على ثقافته. نفس اﻹنجليزي قد يتعرض مستقبلا لغزو عربي، وستصير العربية جزءا تعسفا من مكونات ثقافته، وبعد قرنين جزافا ستكون أمرا واقعا، هل سيخرج أبناؤه في كل مكان لينادوا باغتيال العربية وشتمها واعتبارها غزوا وتهديدا للهوية؟ حسنا، إذا كان ولا بد يجب عليهم إذن أن يراجعوا تاريخهم منذ بدء الخليقة لتنقية عرقهم وشعبهم من الشوائب منطقيا ! قد يبدو هذا تضليلا ولكن أي وضوح يمنحه إيانا رفض لغة ﻷنها ليست أصيلة في ثقافتنا لمجرد أنها تاريخيا ليست بقِدم الوجود اﻹنساني نفسه؟ هل يجدر بنا بالضرورة تبني الحماقات لنشعر بأننا نحافظ على هويتنا أو نرفض ما يمس أصولنا؟
لم أتحدث أبدا عن القرآن، حتى لا يشعر المنتسبون إلى اﻹسلام بفخر مجاني مماثل للرافضين في تبن لا يختلف أبدا لنفس العصبية الفارغة والتفكير الوجداني السلبي. ذلك أن العربية لغة المسيحي العربي ولغة اليهودي العربي وغيرهم ويمكنهم بها أن ينتجوا صلواتهم ويقرأوا كتبهم المقدسة ويشعروا بالفخر أيضا، كما يمكن للمسلم أن يتذوق القرآن الكريم وحلاوته من خلال اللفظ اﻹلهي بهذه العربية الساحرة. يروق لشاعر ملحد أيضا أن يكتب أجمل القصائد بلغة الضاد المجيدة ويصيب ذائقاتنا في مقتل رغم تحفظنا على العبارات والجمل المستعملة والتي قد تمس مشاعرنا الدينية وتهز قيمنا المقدسة..
لكي تحتفل باليوم العالمي للغة العربية يجب أن تحارب نفسك كثيرا لكي تصالح ذاتك معرفيا ووجدانيا وتتمكن من الانتقال من لغة الرفض الفارغ إلى الانفتاح على الممكنات التي لا تمنعك من التفكير أو تدفعك إلى إنكار هويتك أو التنازل عن حقك في الشعور بأصالتك. يجب أن تمنح للآخرين الحرية في أن يحتفلوا معك أو يختلفوا في احتفالهم دون أن يمارسوا عليك أو تمارس عليهم وصايات وفي الوقت نفسه دون أن يكون التوتر حربا بل أن يكون استعدادا للفهم والاعتراف بالخطأ وتصحيحه خارج الدونية والكبرياء والقهر.
ولكي تحتفل باليوم العالمي للغة العربية أيضا يجب أن تكون واقعيا، فهناك شاعر أو يدعي أنه شاعر لا يريد أبدا أن يصحح أخطاءه البليدة، وبدل ذلك ينعت أي جريء استطاع ألا ينافقه بأنه عدو للشعر واﻹبداع ! أيها الغبي صحح الكلمة : لقد كتبت كلمة مرفوض بالدال بدل الضاد ! حسنا سأصدق أنها لوحة المفاتيح هذه المرة.. لكن احرص على ألا تكذب أو تشعر بالعار ! صاحب هذا المقال قد يكون اقترف أخطاء ربما.. أهم شيء هو قابليتنا لحب اللغة واحترامها وتدارك ما فاتنا باستمرار وبلا أي حرج أو تعال أو احتقار…
أيتها الشاعرة، نصوصك جميلة ولكن هفواتك اللغوية جزيلة ! تقولين بأن متابعيك كثر ولا أحد أشار إلى ذلك؟ نعم، نعم.. آخر معلق على تدوينتك الشعرية اﻷخيرةكتب : شكرا لك (ي) على ها(د)هـ(ي) القصيد(تي) الرائعة !
لكي تنتصر للعربية بدون مزايدات أو ثقة عمياء، حاول أن تفهم أن أغلب المتعلمات والمتعلمين وحتى دون إحصاءات رسمية أصبحوا غرباء عن العربية، هم ليسوا من الرافضين الجذريين لها ولا من أولئك الذين يعتبرونها غزوا أو دخيلة على ثقافتهم وهويتهم.. إنهم فقط ضائعون تائهون لا يكادون يتقنون حتى استعمال الدارجة التي لا تعدو كونها تواصلية سطحية صرفة لا يمكنها أن تحمل فكرا أو تدعم تحليلا وعلوما وهذا ليس تحاملا وإنما هي نظرة موضوعية ولا أدل على ذلك من كونها امتدادا للغات المكتوبة والدقيقة ذات القواعد والبناءات الصلبة. ليس في هذا محاسبة للناس على استعمالهم لدارجتهم والعناية بها ولكن دعوة إلى فحص وضع اللغة العربية بالنظر إلى وضع الدارجة والمقارنة بين ما يفترض أن تمنحه إيانا اللغة العربية وما يمكن أن تقدمه الدارجة. إن دارجة الزجل مثلا لدليل على نزوع خاص نحو الارتقاء الشعري ومنح الدارجة أفقا من المعاني والمجازات وغيرها ونظرا لهذه الخصوصية نفسها، لا يمكن أن ننتج معرفة وعلما وتفكيرا خارج جزء هام من ثقافتنا وهي اللغة العربية، ببساطة، إن متعلما يفكر بعربية جيدة قادر على تعلم لغات أخرى ومعارف وعلوم بسهولة أو بصعوبة منطقية.
لنحتفل بلغتنا العربية باعتبارها قدرة على الغنى والفعل واﻹحياء وصناعة ثقافة منفتحة تسعى إلى الاستزادة والتميز والاحتواء لا الرفض والتعصب وغشاوات الجهل والانتصار لذات فقيرة مركبة العجز والحجْر والقهر..