يجلس مولاي أحمد داخل الدكان، يُفرغ الشاي في الكأس. يميل ناحية اليسار، ويُشعل العود* الأول والثاني، وينفث سحابة من الدخان إلى الداخل ثم يقدم إلى الشاب الذي يجلس بجانب الباب. يتناول رشفة من الكأس ليبلل بها ريقه، ويُرطب حلقه بحلاوتها من خشونة دخان القنب الهندي. عندما يشعر بأن مزاجه أصبح رائقا، وقادرا على السفر إلى الماضي أو المستقبل، يبدأ بالحديث.
اسمع يا بني الحياة صعبة. والقاعدة الذهبية للعيش في المدينة، هي إذا أردت أن تأكل، أو تنام عليك أن تدفع. وما دون ذلك قد تجد نفسك غارقا في أعماق الجحيم. ساحة جامع الفنا مدرسة تعلمنا فيها الخير والشر. لتعيش هنا عليك أن تتشاجر، وتكذب، وتغش، وتخدع، وتسرق. قد يهلكك الله، ويزج بك في السجون، أو يمن عليك، وتتوسع تجارتك، وتزداد أرباحك، ويزداد معها الإدمان على الكذب والغش والخداع والسرقة، مع فارق بسيط، هو أن تلبس جلبابا أبيض، وتطلب التوبة والمغفرة كل يوم في الصلوات الخمس.
لا أحكي عن ثورة الجياع، ولا عن تحرير فلسطين. الجدران عندنا لها آذان. البندقية والمدفع اللذان سأحكي عنهما، مجرد أطلال لذكرى حروب وقعت في الماضي البعيد. أسلحة تخلت عن فرسانها، وتحولت إلى تحف، تُغري السياح بمشاهدتها أو اقتنائها، وترتبط بحكايات لا تنتهي لبعض المرشدين المزورين مع سياح أجانب من جنسيات يأتون إلى مراكش.
ساحة جامع الفنا مسرح ومدرسة بحق، لكن لها وجه آخر في النصب، تخرجت منها أصناف مختلفة من المحتالين، فاقوا دهاء ما تصوره بديع الزمان الهمداني في عصره. مقالب هذه الساحة سكنت لا وعي كل من زارها أو سمع عنها، حتى أصبح الناس يتوجسون من كل ما ينتمي لمراكش.
توقف لالتقاط أنفاسه، وأشعل عودا آخر امتص كمية كبيرة من الدخان حتى أصابه السعال، فسلمه لجليسه. أخذ رشفة من (الدكيكة)*، ثم تابع:
في بداية السبعينيات من القرن الماضي، أثثت بعض المدافع الساحة الموجودة بالقرب من باب البلدية. وكان الناس يسمعون دوي بعضها في رمضان مع آذان صلاة المغرب، أو آذان صلاة الفجر، أو في الأعياد والمناسبات.
مدفع آخر يربض غير بعيد عن البلدية قبالة المقر القديم لقنصلية فرنسا، بجانب المدار الذي يقع بالقرب من ساحة عرصة البيلك. مدفع أسود كبير مشدود إلى الأرض بسلسلتين، مثل أسد هرِمٍ فقد هيبته، ويأتي الناس يتفرجون على عجزه وضعفه، ويأخذون الصور التذكارية مع أطفالهم بجانبه في الأعياد والمناسبات. فوهته مرفوعة في اتجاه مقهى الكتبية. لما كنت أجلس يوم الجمعة في هذه المقهى، وأنا مسطول خاصة في منتصف النهار عندما تخف الحركة ، وأنظر إليه، أتخيل قذيفة تنطلق منه، وتنسف المقهى!
يُروى أن مرشدا مزورا وقف مع بضعة سياح أمامه، وأغراهم بشرائه، بعد أن أضفى على تاريخه هالة من الأساطير. اتفق معهم على السعر، وطلب منهم البحث عن حداد لقطع السلاسل، وحمال لنقله. أخذ الثمن واختفى. لما حاولوا اقتلاعه، وقفت الشرطة، ومنعتهم من ذلك، وأخذتهم إلى مقرها القريب من المكان. استمعت إلى أقوالهم، وتركتهم يذهبون إلى حال سبيلهم. بعد شهرين أو ثلاثة اعتقلت المرشد، وقدمته للمحكمة.
رفع مولاي أحمد بصره نحو زبون وقف أمام الباب، يتأمل بعض الحقائب الجلدية، ثم نهض لينزع ثلاثة، ويقدمها له. سأله عن الثمن فقال بصوت ضعيف:
ـ فقط سبعمائة درهم، نطقها بالفرنسية.
رد الزبون باندهاش:
ـ بزّاف* أصاحبي!
ثم وضع الحقيبة، وهم بالانصراف.
بقي مولاي أحمد فاتحا فاه. لعن هؤلاء الفرنسيين الذين سكنوا المدينة فتعربوا، حتى أصبحوا أكثر شطارة من أهل البلد.
عاد إلى مكانه فطلب جليسه أن يكمل له الحكاية.
رشف جرعة من (الدكة)، ثم سأل:
ـ أين وقفنا؟
رد الجليس بأنه لم يبدأ بعد حكاية البندقية.
أشعل عودا آخر، أخذ نفسا، ثم قدمه لجليسه، واستأنف الحديث:
حكاية البندقية على العكس من حكاية المدفع، لم تتدخل فيها الشرطة. بندقية تقليدية، تعمل بالبارود مثل البنادق التي يستعملها (الفرسان) اليوم في التبوريدة، تتزين بحلقات منقوشة من فضة، كل حلقة تشبه الخاتم، ويفصل بين حلقة وحلقة حوالي بضع سنتيمات. يتم صقل فضتها بين الحين والأخر حتى لا تفقد لمعانها.
في سوق (الدكموتيين)* القريب من حي (سيدي اسحاق)، يعرض بعض الصناع هذه البنادق مع مسدسات قديمة في واجهة المتاجر خلف الزجاج.
بيعت بندقية من هذه العينة بثمن فاق الخيال. مليون سنتيم في بداية السبعينات مبلغ اشترى به الناس منازل، فاقت مساحتها مائة متر. رفضوا في الجمارك السماح للبندقية أن تخرج بهذا الثمن، وطلبوا من السائح أن يعيدها لصاحبها، لان سعرها الحقيقي لا يتجاوز ثلاثمائة درهم. وصل الخبر إلى صاحب المحل. طلب من جميع العاملين عدم الحضور للدكان في اليومين القادمين حتى يتفرغ لحل المشكل.
جلس بمفرده على كرسي أمام الباب، وعينه على الزقاق الذي سيأتي منه السائح. صوت الحسين السلاوي* يصل ضعيفا من دكان بعيد: (حضي راسك ليفوزو بك القومان يا فلان). لمحه في اليوم الثاني على بعد عشرة أمتار، فهرع إليه، وأخذ البندقية، واصطحبه إلى المحل. سائح طويل القامة، قوي البنية، في الستينات من العمر. شعره أشقر، يرتدي قميص (جينز). أجلسه في الداخل، وقدّم له كأسا من الشاي. ثم مثل عليه مسرحية، يعجز الشيطان عن تخيل بداية ونهاية لها.
البندقية ترتعش بين يديه، وهو يتحدث بصوت متقطع، كمن عثر على كنز، وخانته الكلمات للتعبير عن فرحه :
ـ شكرا لك سيدي. القدر والنية ورضا الوالدين، استجابا لدعائي. أنظر؟ .لقد طردت كل العاملين من المحل بسبب هذه البندقية. دفعت فيها ثمنا أغلى بكثير مما دفعت سيدي. الجمارك أغبياء، لا يتجاوز مستواهم التعليم الابتدائي أو الإعدادي. هل هم متخصصون في علم الآثار؟ ماذا يعرفون عن التحف؟ لا أحد يعرف قيمة هذه البندقية غيري. إنها تحفة نادرة، تسكنها روح مباركة لمقاتل من الأزمنة الغابرة، دَوّن تاريخ القبيلة ببارودها. زرع صوتها الرعب بين جبال الأطلس الشامخة في خصوم عاثوا فسادا في الأرض. كل البارود الذي خرج من فوهة هذه البندقية وقف بجانب الحرية والعدل. الله وحده يعلم كم حصدت من أرواح شريرة. هذه التحف لا تهبط علينا من السماء، يذهب متخصصون للبحث عنها شهورا طويلة بين الجبال والأودية. لهذا عادت إلى أصلها. شكرا مرة أخرى. تريد نقودك؟ انتظر فهي جاهزة.
ذهب في اتجاه الداخل، وفتح الدرج، وأخرج مبلغا من المال، وقدمه لضيفه.
داخ السائح، لم يعد يعرف من يصدق، الجمارك أم صاحب المحل. تمسك في الأخير بالبندقية، واشترط عليه صاحب المحل إضافة خمسة آلاف درهم إلى ما قدمه سابقا. قيل بأن صاحب المحل اقتسم نصفها مع موظفي الجمارك.
والله يتعجب الناس كيف يسقط أغلب السياح بسرعة فريسة لمقالب عمال البازارات الذين تخرج أغلبهم من ساحة جامع الفنا؟ ربما لم ينصحهم أحد بالاستماع إلى أغنية الحسين السلاوي (حضي راسك ليفوزو بك القومان يا فلان).
ملأ مولاي أحمد عودا آخر بالقنب الهندي وأضاف قبل أن يشعله ،وهو يتذمر من جشع لوبي البازارات الكبرى، واحتكارهم للوفود السياحية، وشرائها من الشركات والفنادق قبل أن تطأ أقدامها أرض المدينة:
ـ قد تكون وحدها الدهشة أو الغرابة تعمي الأبصار، وتسحر عقول السياح، وهم ينظرون إلى منتجات تقليدية، أو أشياء لم يسبق لهم أن رأوها في حياتهم، فيصدقون كل شيء تقوله. ومن عرف كيف يغوص في عوالمهم النفسية، ويمدح نساءهم، ثم يجعل من الحبة قبة، يسلبهم كل ما يملكون من مال عن طيب خاطر.
المعجم :
ـ العود : السبسي أي الأداة التي يدخن فيها القنب الهندي.
ـ (الدَكّة) : كلمة تدل عند الصناع على كأس قهوة أو شاي إو أي مشروب غازي.. وقد يحتفظ مدخن القنب الهندي بكأس شاي واحد طيلة اليوم. وعندما يبقى منه القليل فقط يصغر فيسمى (دكيكة).
ـ بزّاف : كثير أو غالي جدا.
ـ سوق (الدكموتيين) : سوف خاص بصناعة الخناجر والبنادق والمسدسات التقليدية التي تعمل بالبارود .
ـ حسين السلاوي : مطرب وملحن مغربي توفي في بداية الخمسينات من القرن الماضي، عرفت أغانيه شهرة واسعة في فترة الاستعمار . وتجربته شبه تجربة سيد درويش عن المصريين .
مراكش 26 اكتوبر 2018