وشم من ذاكرة المطعم الجامعي بظهر المهراز*
عندما دخلت المطعم الجامعي لأول مرة أخذتني دهشة غريبة. حدث ذلك في نهاية السبعينات من القرن الماضي (1978). ثلاث قاعات كبيرة لتناول الطعام أمام كل منها طابور طويل من مئات الطلبة ينتظرون دورهم للدخول إلى المطعم. لأنضم إلى أحد هذه الطوابير علي الذهاب إلى الشباك، واقتطاع تذكرة بدرهم وأربعين فرنكا. الانتظار يأخذ وقتا طويلا بعد الثانية عشرة زوالا. سأفهم فيما بعد أنه إذا أردت تناول وجبة الغذاء في هذا الوقت علي أن اخذ معي مجلة أو جريدة، أتلهى بها حتى يحين دوري.
بعد أكثر من ساعة وصلت إلى الباب، ودفعت التذكرة. راقبت من سبقني عن كثب، وفعلت مثله. أخذت من أحد العمال (بلاطو) وملعقة وشوكة وسكين. قدمت (البلاتو) لعاملة فوضعت الخبز، وعامل آخر قطعة اللحم ، ورابع المرق والخضر وخامس السلطة. وبعد ذلك تفاحة وليمونة وكأس الماء.
في اليوم الأول. لم أختر، ولم أستبدل أي شيء. اكتفيت بتتبع ومراقبة كيف تجري الأمور.
اتجهت رفقة صديقي إلى طاولة في الخلف. استغربت لهذا العدد الكبير من الطلبة الذين يتناولون وجباتهم بجانب بقايا طعام من مخلفات من سبقوهم، وهم يتحدثون إلى بعضهم البعض.
انتهى شوط، وبدأ آخر. وضعت (البلاطو) فوق الطاولة. التفت يمينا وشمالا، أغلب الطلبة والطالبات يتناولون وجباتهم بالشوكة والسكين. إذن علي أن أفعل مثلهم. نظرت إلى الشوكة والسكين، وعلا الاحمرار وجهي قبل أن أضع يدي عليهما. في البيت أكتفي بغسل يدي، وأقول باسم الله بصوت مسموع، ثم أتناول طعامي بتلقائية. ولابد أن اجلس بشكل لا أترك معه فجوة للشيطان بأن يأكل من تحتي، لأنه في هذه الحالة سأحتاج إلى طعام كثير ، ولن أشبع كما يقول الكبار. الآن بعد كل هذه السنين اجلس فوق كرسي ، وأجد أمامي، لأول مرة شوكة وسكين و(بلاطو) ووجبة خاصة، سأتناولها بمفردي. لا بد أن التدرب على الأكل بهذه الأدوات القادمة من وراء البحار سيأخذ وقتا طويلا. سألت نفسي ألا يمكن الاستغناء عنها بشكل مؤقت، والعودة إليها عند الحاجة.
رأيت شابا يجلس في الطاولة الثالثة المقابلة لمكاني يأكل بيديه دون حرج ، لا بد أن أفعل مثله؟ ماذا سيحدث ؟ سيسخر مني بعض الطلبة في صمتهم ! ليفعلوا ما بدا لهم.
مع مرور الأيام اكتشفت أيضا أن الكثير منهم لا يحبون وجبات المطعم الجامعي. في المطعم الجامعي يطبخون بالصودا والشحوم لحوما مجمدة قيل بأنها مستوردة من الأرجنتين، كما شاع في ذلك الوقت. وكرد فعل نفسي على ذلك، سأكتشف فيما بعد، بأن العديد من الطلبة تعودوا على سرقة الشوكة والسكين والكأس وأحيانا (البلاطو) نفسه.
البعض يظن ، وبعض الظن إثم، بأن العين التي لا تنام، وإدارة الحي الجامعي، والمسئولين عن التعليم العالي، يتعمدون استيراد هذه اللحوم، وطبخها بالصودا والشحوم حتى يصاب الطلبة بمرض المعدة إلى الأبد. وعندما يتخرجون يكفون عن الشغب، ويتناولون القليل من الطعام، وينشغلون بأمراضهم.
في فترة الامتحانات اغلب الطلبة يتنازلون عن ذوقهم، ويقتنون عشرات التذاكر لضمان تغذية موازية لأيام التحضير واجتياز الامتحان.
عثر أحد الطلبة في فترة الامتحانات على حشرة في صحنه. أراها لمن يجلس بجانبه في المطعم طالبا التضامن معه. كان التضامن يبدأ بالاحتجاج بالضرب على (البلاتو) بالملعقة أو السكين، ثم ينتقل إلى مقاطعة الأكل، وبعد ذلك التظاهر أمام ممرات المطاعم. وغالبا ما يحدث ذلك بعد صرف المنحة. لم يفهم المسكين أن جل الطلبة في هذه الفترة من السنة، يدخلون في أزمة مالية، تمتد إلى بداية الموسم المقبل.
الكثير من الطلبة يقتنون في هذه الفترة تذاكر شهر أو أكثر لتناول وجبة الغذاء بالمطعم، خوفا من الوقوع في أزمة تغذية خانقة أثناء مرحلة اجتياز الامتحانات. وتتحول هذه التذاكر إلى عملة صعبة قابلة للصرف عند الحاجة.
مجلس القاطنين بالحي الجامعي بفاس فرض تقليدا على الإدارة منذ أيام حظر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، تحول إلى مكسب يستفيد منه الطلبة الذين لا يملكون ثمن تذكرة تناول وجبة العشاء. كانت الوجبة حسب الاتفاق كاملة بالنسبة لغير الممنوحين، وتقتصر على (الخبز والحريرة) بالنسبة لغيرهم. وإذا كان الطالب شاطرا و(قافز)* بتعبير المراكشيين، يمكنه أن يستفيد من وجبة كاملة.
تسكن ذاكرتي وجبات شعبية موروثة عن ثقافة محلية. خارج الحي أو البيت يمكن أن أتناول صحنا صغيرا من (البيصارة) أو العدس أو اللوبية في منتصف النهار بدرهم واحد، وهو الطعام المناسب لطالب يعتمد بشكل كلي على المنحة. ولا يمكن أن أتجاوز هذه الميزانية إلى أضعافها إلا إذا لعبت الخمر برأسي.
تناول الطعام مع الجماعة يخضع لميزانية خاصة. صديقي عزيز طباخ ماهر، يمتعنا بين الحين والآخر بأكلات فاخرة. ألذها وأحلاها (طنجية) ب (كرعين الغنم). حدث ذلك مرة واحدة. وحسن تخصص في طبخ الوجبة التي ورثها عن والده: السردين (المشرمل) بالقزبر والمعدنوس والتوابل.
كفتة الحصان رخيصة نسبيا، وعزيز يضيف إليها الأرز والتوابل للقضاء على مذاقها الرديء. عندما توضع هذه الوجبة في صحن أبيض كبير، تبدأ معركة من نوع آخر، معركة الأمعاء الفارغة. في فصل الشتاء نمسح الصحن، والبخار لا زال يتصاعد منه.
لا أحد يسأل إن كان الأمر يتعلق بلحم الحصان أو البغل أو الحمار . الجزار كتب على اللوحة بأنها كفتة لحصان. إذن هي كفتة من لحم الحصان. وميز بين نوعين: كفتة للبشر، وكفتة للكلاب. فهي كفتة مخصصة للبشر، إذا أديت 20 درهما مقابل الكيلوغرام الواحد.
المعجم:
ـ ظهر المهراز: الحي الذي يحتضن جامعة سيدي محمد بن عبد الله بمدينة فاس .
– قافز : لفظ من اللهجة المحلية يعني شاطر .
مراكش 13 يوليوز 2017