على الرغم من حداثة تأسيس مدينة الناصرية , إذ تم تأسيسها في حادثة سياسية مشهورة فقد أرادت السلطات العثمانية ان تقوض دور المشيخة السعدونية التي كانت اقوي العشائر العراقية آنذاك , وتشكل تهديدا مستمرا لنفوذ العثمانيين في جنوب العراق , فاقترح الوالي مدت باشا تأسيس مدينة الناصرية بموافقة ناصر باشا السعدون الذي كان على خلاف مع أخيه منصور السعدون على ان تسمى باسمه , وعلى الرغم من رفض عشائر السعدون لذلك المخطط , إلا انه تم وضع حجر الأساس للمدينة عام 1869 م , في منخفض يتسلط عليه نهر ( أبو جداحة) إذ تكون المدينة دائما عرضة للغرق فيما إذا استشعر العثمانيون منها الثورة , فكانوا يفتحون النهر على المدينة , ويغرقونها خلال ليلة واحدة . وقام المهندس البلجيكي المسيو ( جول تلي) بتخطيط المدينة وجعل من شوارعها عريضة , ومتعامدة , بحيث تكون المدينة مفتوحة دائما مما يسهل قمع أي انتفاضة فيها لسهولة حركة رجال الجندرمة العثمانيين فيها إلا ان الحركة الأدبية فيها بدأت بشكل مبكر , إذ يذكر المؤرخ شاكر الغرباوي , ان مجيء الشعراء لتهنئة الشيخ ناصر باشا السعدون بمناسبة تأسيس مدينة الناصرية عام 1869م , يمكن ان يشكل النواة الأولى لنشوء هذه الحركة, واستمرت هذه الحركة من خلال الدواوين التي كان يلتقي فيها الشعراء للمشاركة في المناسبات الدينية أو الوطنية أو الاخوانية كرثاء شخص ما , أو عتاب أو فرح وغيرها وكان أول منتدى أدبي في المدينة يقام في بيت الحاج حسين بن عيسى بن موسى الغرباوي , وخلال هذه المدة من تأسيس مدينة الناصرية , وحتى عام 1914 م لم نجد أي أشارة أو مصدر يؤرخ تفاصيل هذه الحركة باستثناء ما رواه الغرباوي من بعض مثقفي المدينة شرعوا يمارسون الأدب, إلا ان الغرباوي يعود مرة أخرى يقول : من الممكن تحديد تاريخ الحركة الأدبية في مدينة الناصرية ببداية الأربعينيات وقد نشأت هذه الحركة بتأثير الحركة الأدبية في النجف إذ كان اغلب أدباء تلك المدة من الذين تأثروا بالأفكار الدينية , واعتمدت ثقافتهم على حفظ الشعر العمودي , وفي رأي أخر للغرباوي أيضا يقول : وفي مجال الأدب والعلم في الخمس والعشرين سنة الماضية ظهرت في الناصرية بوادر حركة أدبية مباركة , فبدأت جماعة من الشباب تعنى بالأدب عناية طيبة , وبرزت من بينهم صفوة من الأدباء والشعراء , والكتاب , والأساتذة ,وساهمت مدينة الناصرية في الصحافة فاصدر ( لفته مراد ) جريدة أدبية باسم المنتفك عام 1939 م , ثم اصدر شاكر الغرباوي المحامي , ( مجلة البطحاء) عام 1945م , واصدر عبد الغفار العاني (جريدة الطليعة) ثم أبدل اسمها بـ( اللواء) , واصدر أخيرا فاضل جميل جريدته ( صوت المنتفك) التي أبدلها باسم ( الأماني) ومما لاشك فيه ان هذا التناقض في تحديد بدايات الحركة الأدبية في الناصرية يعني عدم وجود مؤرخ حقيقي يهتم بهذا الموضوع اهتماما جديا , إلا أننا نرى انه من الراجح ان تكون الحركة الأدبية الفعلية قد بدأت مع مطلع الأربعينيات لاعتبارات كثيرة أهمها سيادة الجهل والأمية في ذلك الوقت إذ لا نستطيع ان نجزم بمدى ثقافة ذلك المجتمع فضلا عن ظهور بواكير الصحف والمجلات في الناصرية , وتأثيرات الحركة الأدبية في النجف الاشرف التي انخرط فيها العديد من أبناء الناصرية , وخاصة أدباء وشعراء سوق الشيوخ , ولا شك ان كل هذه العوامل تدفع بنا إلى الاستنتاج بأنه من المستبعد وجود حركة أدبية قبل هذا التاريخ وان وجدت فإنها لا تتعدى حدود الجهود الفردية الأولى .
وأخيرا نقول بدأت الحركة الأدبية في مدينة الناصرية , وشرع بعض مثقفي المدينة يزاولون الأدب , وبصورة خاصة الشعر , ولم تتجاوز هذه الممارسة حدود الاخوانيات والمداعبة البريئة والنكتة اللاذعة وكان على رأس هذه الجماعة خيون راشد , وطالب فليح , وهما شاعران من الرعيل الأول في هذه المدينة, وتعقد آنذاك ندوات مدرسية مساء كل يوم اثنين في ثانوية الناصرية يشارك فيها طلاب تميزوا بقدرات ومواهب أدبية برز بينهم أدباء مات بعضهم , وانقطع البعض الآخر عن الأدب لأسباب كثيرة , ومن هؤلاء الشعراء , والأدباء : ( عبد المحسن القصاب , ومحمد حسن العضاض , ونعيم عبيد , وعبد القادر الناصري , ورشيد مجيد وآخرون . لم يبق منهم في هذا الميدان سوى الأستاذ شاكر الغرباوي الذي ظل يواصل عطاءه الأدبي على الرغم من مغادرته مدينة الناصرية لالتحاقه بكلية الحقوق ويدير هذه الحركة كل من : ( محمد شرارة , وحسين مروة , والشاعر فتى الجبل )
ولم تك هناك مجلة او صحيفة تتعهد النشاطات البكر لهؤلاء الناشئين حتى اصدر الأديب شاكر الغرباوي (مجلة البطحاء) التي كان لها الأثر الكبير في نشر ما أنتجته أقلام الأدباء في الثلاثينيات وما بعدها , ثم أعقبتها فترة خمول اكتنف المدينة .
وبعد نهاية هذه المدة بدا تجمع جديد من الأدباء في مقهى عزران البدري وهو منتدى أدبي يضم مجموعة من الأصدقاء كانوا عشاقا للأدب , وصديقهم عزران البدري يمدهم بين آونة وأخرى بما لديه من كتب كثيرة كان يمتلكها .
في احد الأيام اخبرهم احد الشعراء بأنه تعرف على شخص يكتب الشعر , وله معرفة باللغة العربية والمنطق ومن الضروري جدا التعرف عليه للاستفادة من مواهبه وهو عباس الملا علي , وتعرف عليه جميع الشعراء والأدباء في المدينة .
والتحق بهم في مقهى عزران البدري إذ اتسم بطابع جدي استقطب أكثر هواة الأدب في المدينة , وكان يلقي عليهم محاضرا ت في اللغة والمنطق ويعلمهم الأوزان الشعرية , وكتابة المقالة الأدبية , وقد خصص لهم ليلة في كل أسبوع وعلى الأرجح كانت ليلة الخميس للانضمام في ندوة أدبية تعقد في بيت عزران يلقي فيها كل منهم ما عهد إليه ان يكتبه خلال الأسبوع , ثم تناقش الموضوعات الأدبية ويعقبها درس جديد في اللغة أو المنطق يلقيه عباس الملا علي عليهم وهو أستاذهم الذي يلجاؤن إليه في كل ما يشكل عليهم من أمور أدبية0 وفي تلك المدة كان الشاعر عبد القادر الناصري عاد الى مدينة الناصرية ولمجيئه الفضل الكبير في استقطاب من ذوي الكفاءات التي لم تشارك بعد في المنتدى الأدبي وقد انضم إليهم الشاعران عبد الرحمن رضا , وصبري حامد اللذان كانا يشاركان بفترات متقطعة , والدكتور عبد الكريم الأمين , والشاعر كاظم جواد , والسيد سعيد كمال الدين قاضي المدينة وحاكمها الشرعي الذي يدعو بين اوانة وأخرى عدد من الأدباء والشعراء لعقد ندوة أدبية في بيته لتشجيعهم من جهة و ولحمايتهم من مطاردة السلطات آنذاك ومضايقتها لهم من جهة أخرى . شهدت مدينة الناصرية في تلك الحقبة حركة أدبية واسعة , ونشاطات تظهر في مناسبات كثيرة , وكانت لزيارات جعفر الخليلي الى مدينة الناصرية من اجل الأدباء والشعراء ولمجلته الهاتف , ومجلة الغري وبعض الصحف العراقية في فترات متفاوتة الأثر الكبير في نمو هذه الحركة وازدهارها .
وقد واكبت هذه الحركة فترة الصراع الوطني اذ تجلت ذروتها خلال انتفاضات كانون 1948 , وما أعقبتها من أحداث وطنية تطوع لها أكثر هؤلاء الشعراء والأدباء للتعبير عن شعورهم الوطني الذي أوصل بعضهم إلى السجن , والقضاء على بقايا هذه الحركة , ثم أعقبتها فترة جمود مارس خلالها الشعراء أعمالهم الأدبية بصورة سرية , تلتها فترة اتسمت بمضايقة بعض الشعراء من لدن السلطة الملكية مما أدى إلى هجرة عدد منهم إلى بغداد . وتبلورت حركة أدبية برز من خلالها شاعرنا رشيد مجيد , والأديب فاضل السيد مهدي اللذان اتصفا بالحماس باندفاع شديدين والتف حولهما كل من : ناهض فليح , وقيس لفته مراد , وصلاح النيازي , وعناية الحسيناوي , والتحق بهم مرة أخرى الشاعر عبد الرحمن رضا , وعبد الجبار القصاب , وعبد الستار شاهين , وطالب مشتاق, وعزيز بهاء , وعامر طاغي , ولعل نتاج هذه الحركة النادبة كان أكثر نضوجا من نتاج سابقتها على الرغم من انطوائيتها على نفسها , وتعذر نفوذها تماما إلى الجماهير , لأنها ولدت في فترة إرهاب ومطاردة كل فكر وكل اتجاه , وقد استمرت إلى أواسط الخمسينيات .
ثم ولدت حركة أدبية وأساليب جديدة نشطت فيها كتابة القصة والمسرحية التي لم تعرف سلفا في نتاج من سبقهم من أدباء هذه المدينة , ان أقلاما جديدة تحركت في تلك المدة فكانت لها سماتها المميزة , وقراؤها , وفي مقدمتهم : عبد الرحمن الربيعي , واحمد الباقري , وعبد الجبار العبودي , ومحسن الخفاجي , وقاسم الدراجي , وعبد الرزاق رشيد وآخرون . مرت الحركة الأدبية في مدينة الناصرية في حالات مختلفة تنشط مرة, ويكتنفها الغموض أو الاحتضار مرات أخرى , وقد رعرع في ظلها عدد من الشعراء والأدباء , واحتضنت عددا من المفكرين والمؤرخين ورجال العلم . هذه هي بداية الحركة الأدبية في مدينة الناصرية , ومراحل تطورها , وما زالت تنجب الشعراء والأدباء الذين كرسوا حياتهم , وافنوا مشاعرهم في التغني بحب مدينة الناصرية .