غرف متجاورة كعربات القطار الباب في وسط الحائط ولا أثر للشبابيك فالمصمم قد استعاض عنها بـ(الدريشة) وهي تجويف نافذ يقترب من السقف كثيرا ،
قبل الشتاء يتم تخزين .. التمر.. السمك المملح .. الحطب والذي يشمل سعف النخيل وجذوعه اليابسة تماما،
(جاسم جلسه) يبيع كل شئ.. الرز بأنواعه والطحين والسمن والدبس وعلاج الصداع وقطرة العين(والجندل والباسجيل وهي اخشاب واعواد تستخدم في تسقيف الدور قد طليت بالزفت فانقلبت للون البني الداكن) والرهش (الراشي)الذي يؤكل مع التمر في ليالي الشتاء الباردة او نهاراتها الممطرة او ضحىً تحت اشعة الشمس الخجولة وهي تحتجب بقطع الغمام بين الفينة والاخرى،
(المنقلة) صندوق معدني مفتوح من الاعلى له أربعة قوائم قصيرة، تملأ بالجمر المتبقي في التنور بعد الخبز للأستمتاع بالدفأ اثناء تناول العشاء الذي لا يتأخر بعد اداء الصلاة الا قليلا،
الربيع لا يأتي الا برفقة (الصبور) الذي يزدحم بشط العرب،
قوارب الصيد تجوب الشط صباحا ومساءا، صدى المطارق التي تصلح الزوارق ممزوجة بقهقهات الصغار وصيحات عبر ضفتي النهر تملأ الاجواء.
لم يغادر مذاق اللقيمات فمي بل لم اذق مثله قط يا أمي كان معجونا بعطر يديك .. لا … لم يكن ذاك عطرا .. كان حبا كان روحا تملأ الدنيا سرورا.
إنه شهر الصيام
آنية المحلبي والكاستر والهريس والحلاوة لا يأخذها قرار فهي دائمة الحركة بين المنازل وكلما اقترب وقت الافطار ازدادت سرعتها،… سيوقفها صوت المؤذن.
تلاوة القرآن بصوت عبدالباسط نغمة موحدة لكل اجهزة التلفاز، المصابيح يشتد بريقها، ستنتقل القدور لموضع تناول الطعام، عمليات الثرد تشارك فيها كل الفتيات ،
التمر واللبن يتصدران المشهد بينما تقف الشوربة وهي تنفث انفاسها الأخيرة , تنتظر دورها ،
هدوء تام يخيم على الاجواء باستثناء صوت الملاعق تعزف الحانها على الخزف ، ستنتهي قريبا الملحمة.
اثناء تناول الشاي يعلو الضجيج بينما ينصت الصغار لمريم الغضبان تحدث عن الزرزور الذي ذبح البعوضة وملأ من لحمها قدورا سبعة.
مجلس الأرشاد يتبعه رثاء لسيد الشهداء يعقد كل ليلة في المسجد،
في الطرقات تتعالى اصوات الصغار… ضحكاتهم …
جماهير الاطفال تجتاح شوارع القرية إنطلقت بعد اللقمة الاخيرة من الافطار وقبل تناول الشاي، فهذه ليلة القرقيعان ، الهتافات تتنوع حسب المجاميع ، كل العوائل قد اعدت عدتها للضيوف وتزودت بقطع الحلوى ذات الاغلفة الملونة والمكسرات وعند الهتاف بآسم اصغر افراد الاسرة يهرع الابن الاكبر لتقديم العطايا وسط الضجيج والزحام امام باب الدار والذي يسفر عادة عن اكساء الارضية بأنواع المكسرات والشامية والاغلفة الفارغة،
هذه الليلة من شهر الصيام مخصصة للطفولة فكل النشاطات الاجتماعية متوقفة وأجهزة التلفاز لا يُعتنى ببرامجها بينما تصل المجاميع الانشادية تباعا ،
(قرقيعان وقرقيعان تنطونا وننطيكم) ثقافة امة تزرع في ابنائها التواصل والعطاء فعندما تعطوننا سنعطيكم ، نعم نعطيكم وان كنا فقراء فلا فوارق طبقية في البذل وتقبل العطاء.
(بيت مكة نوديكم) غاية سامية يسعى كل مسلم لتحقيقها بعد انقضاء شهر الطاعة والمغفرة، انها دعوة صادقة ممن لم تلوثهم الذنوب والخطايا ،
(الله يخلي الزغيرون) رسالة حب صافية نقية تلج افئدة الاباء والامهات فتورق سعادة وبهجة،
الاراضي الزراعية تقطعها دروب عاليات تسمى مقاطع كان احدها يمتد بين ارضنا وارض جارنا (زاير چلاب) ثم يقاطعه آخر يتجه صوب مقبرة الاطفال التي توسطت القرية وتشرف عليها سدرة عملاقة فيمر المقطع تحتها حتى القنطرة التي توصل الى بيت (عبدالله السعدون) ثم يتفرع لشط العرب وآخر نحو الهاتف، والهاتف هذا مدخل المدينة حيث الشارع المرصوف بالاسفلت والبيوت المتلاصقة وبها قاعة يجتمع فيها الناس في العيد ينظرون لشاشة التلفاز العجيبة والتي تبدأ بثها عند العاشرة صباحا بفلم كارتوني ممل لكلبين يركضان سريعا ثم يقفان وهما يتحدثان الانجليزية لم اكن اعلم لماذا يركضان وعن ماذا يتحدثان قبل ان تبدأ الحديث (ماما انيسة)،
جلست هادئا مع اصدقائي ممسكا بـ(الورور) الذي خبأته تحت ثيابي كي لا يلعب به غيري فيتلفه.
بالامس بكيت كثيرا امام متجر شركة باتا فسعر الحذاء يعادل مصرف العائلة ليومين كما لم احضى بالبنطال والقميص الذي ارغب فوالدي يصر على الشراء من (صالح بارون) حيث لا سداد حتى الموسم،
ساحة الاحتفالات في مركز مدينة الفاو بها دواليب ثلاثة وخيمة لساحر وحوض للبط ترمى لاعناقها الحلقات الملونة والعديد من عربات اللبلبي والشربت وصناديق الكولا والتراوبي والسينالكو،
مئة فلس كانت هدية العيد لم ابقي منها فلسا فصعدت الدولاب ورأيت الساحر واكلت من كل عربات اللبلبي وشربت المياه الغازية .
حين عدت كانت السماء
تودع الشمس وتلتقي القمر
يستيقظ النائمون في باحات المنازل صيفا على صوت الحاج مال الله منطلقا من مسجد الميرزا فتسمع سعال الشيوخ وهمهمات النساء يرددن آيات الكتاب الكريم وبكاء الرضع ممزوجا بثغاء الماعز وصياح الديكة ، وحين يعود من الصلاة أبي تبدأ مراسم الإفطار ، البلة بتشديد اللام حصير يصنع من خوص النخيل تفرشه أمي في البقشة وهي حديقة صغيرة تلحق بالمنزل مفصولة عنه بسياج وباب خشبي كانت مغروسة بأربع نخلات وشجرة سدر وتينة وشجرة عنب ، وحين تبزغ الشمس تفرغ المنازل من الرجال وتمتلأ بهم الحقول وتحمل مياه شط العرب آخرين في قواربهم ينشدون ويضحكون بانتظار الشباك وما تحمل من رزق الكريم ، اللبن والزبد غذاء الكادحين ضحىً وينبؤهم صوت الحاج حسن الشرطي بأن موعد الصلاة قد حان والوقت منتصف النهار ، النوم الإجباري بعد الغداء شعار يرفعه أبي ولست أدري إن كان يريد راحتي من اللعب أم الهدوء ، المروحة وسيلة التبريد الرئيسية في غرفة بنيت من الطين وطُليت جدرانها بالطين وسقفت بحصائر القصب والخشب والطين ، العصر موعدٌ للتزاور والإستجمام ومباريات كرة القدم وعند الغروب يعلو صوت الحاج عمران الحرابة من مسجد القرية مرددا آيات الكتاب ورافعا الأذان .
كنت اراها تسند مقودها الى الجدار الطيني بينما يعتلي الغبار سرجها.. كان بنيا.. نعم اتذكره جيدا، اتذكر الجرس الصغير في الجانب الأيمن من المقود، كان يمتطيها للتسوق فقط بينما يشاطر طلابه رحلتهم اليومية الى المدرسة مشيا على الاقدام، ثلاثة احواز فقط تفصلنا عنها ،
غالبا ما يحمل اوراق الامتحان اليومي او الشهري عند عودته بينما يحاول مرافقوه استعراض مهاراتهم في اللغة الأنجليزية أمامه.
جميلا ممتلئا يميل الى القصر تراوده الدنيا عن نفسه فيشيح عنها حياءا وتقىً،
رحلته الى مركز المحافظة عصر السبت كانت الأخيرة،زميله يونس طرق الباب صباح الأحد يريد ان يتيقن وجوده قبل ان يصرح بشئ.
بعد وفاة عبدالكاظم إنقلبت الحياة رأسا على عقب ولم نلبث سوى سنة واحدة وبضعة أشهر ، كان الخوف خلالها يخيم على القرية ، أصوات سرف الدبابات ، شحة ماء الإسالة ثم انقطاعه نهائيا ، أصوات الإنفجارات ، كانت تنذر بشيء .
الساتر الترابي يقترب كثيرا من الشارع فلا فاصلة بينه وبين الشط في سيحان، رائحة البارود وصوت الاسلحة الخفيفة تقتحم نوافذ الباص الخشبي،… يخيم الوجوم على الركاب،… قال احدهم هذه اخطر منطقة،… لم يجبه أحد ، بدا المشهد أكثر رعباً بعد انفجار قذيفة هاون، ثم عاد الصمت المشبع برائحة الخوف بينما تبتعد السيارة عن منطقة الخطر،… تنفس الركاب الصعداء،… قطعنا نصف الطريق الى الفاو قالها رجل مسن واستطرد يسألني..
اين تنزل؟
في المعامر ذاهب لأحضار جدي الذي رفض النزوح معنا تشبث بالارض، بالنخيل، بالجهد والعرق الذي سقى كل فسيل حتى نمى كان يفضل الموت بين اشجار العنب وأغصان التفاح والمشمش،
قال وهل تقوى على اقناعه بالعدول؟
..سأحاول فأنا أحب جدي كثيرا .
قرب محطة ضخ الماء… ناديت على السائق.
نازل…..
الطريق لـ(كوت ابو شعيب) طويل جدا يخلو من كل شئ إلا برك الملح المنتشرة على جانبيه سأركض لأختصر الوقت فالشمس بدأت نشاطها المعتاد ،
كان قد انتهى للتو من علف الابقار وبدأ بتحضير فطوره،
ما الذي احضرك في هذا الخطر؟ قالها بحرقة وهو يتأمل انفاسي المتسارعة، لن أعود بدونك يا جدي قلتها بأعلى صوتي مشحونة بالعبرات المتكسرة في صدري،
حين غادرنا انا وجدي عبود اطلقنا سراح الابقار والدجاج وأغلقنا الباب وتلفتنا كثيرا قبل ان يختفي اثر المنزل الى الأبد.