ساهم بالملف:
هاشم تايه – جميل الشبيبي – جاسم عاصي – مجيد الموسوي – جاسم العايف – حسين عبد اللطيف – ببلوغرافيا
بعيداً عن (أرصفة العذاب والجفاف والعوز) *
هاشم تايه:
سَمْت المربين المثاليين برزانتهم ووقارهم وتواضعهم هو ما جذبني إليه حين قُدِّر لي أن ألتقيه في الثمانينيات الملتهبة من قرننا الماضي… كان كمن يجلس إلى نفسه على الرغم من جلوسه بين آخرين، وكانت سحنته السمراء العميقة تظلّل وجوده وتفرده مستفيدةً من روح أخرى سكنت روحه، هي روح الألم الخاص الذي لم يكن منه مهرب وقتذاك…
ومضت الأعوام عاماً يبطش بعام ويُريحه من التقويم المنتهك المهدور، ولم يعد أحدٌ يرى أحداً إلاّ في حلم على سرير، أو على رصيف، وارتسم وجهه، وجه عبد الحميد عيسى، ظلاًّ غارقاً في وجهنا المعذَّب على أرضٍ ليست بأرض، وتحت سماءٍ ليست بسماء…
حين خرجنا في قيامتنا الجديدة كان جسد عبد الحميد قد خذله تماماً، لكنّه لم يجهز على روحه التي بقيت حتى يومه الأخير تقول كلماتها، وكنّا في صحيفة (المنارة) نستقبلها بالحنوّ والتقدير…
لم يرسل الراحل عبد الحميد عيسى أيّة مادة إلى صفحتنا الثقافية إلاّ ومعها رسالة تقطر تهذيباً وتواضعاً، وتفصح عن إعجابٍ ومؤازرة وتشجيع، بنبرتها الحميمة وروحها الإنسانيّ الشفيف،…
أخيراً ليس لي مهرب من أن أقول بألم: لا بدّ أنّ إنساناً طيّباً من طراز الأستاذ عبد الحميد عيسى قد فارقنا محزوناً ، لأنّه نسج أوراقاً لا تسرّه، بدوافع شتّى، وألصقها بأغصان الـ (شجرة خلف السياج) كتابه القصصي الذي أخرجه عام 1984…
أخيراً، أيضاً، يبقى عبد الحميد عيسى غصناً حيّاً في شجرتنا التي سُجِنت طويلاً خلف سياج، وما فاتها أن تتحرّر منه..
* ما بين القوسين مقتبس من رسالة للرّاحل.
————————-
في ذكرى رحيل القاص عبد الحميد عيسى
سيرة أدبية غير مكتملة
جميل الشبيبي:
عرفت القاص عبد الحميد عيسى بداية الستينات من القرن العشرين… كنا نعمل سوية في خلية حزبية واحدة.. ولم يكن يعرف احدنا الآخر بغير هذا الاهتمام.. في حينها كان هو معلماً لتدريس اللغة الإنكليزية، وكنت طالباً في السنة الأخيرة من المرحلة الإعدادية… في تلك الفترة، كان الراحل نشيطاً مندفعاً، يمتلك جسماً رياضياً قوياً وشخصية محببة، يتصف بشجاعة الموقف وجرأته.. وقد شارك، في ذلك الوقت، مشاركة فعالة في انتخابات نقابة المعلمين ضمن القائمة المهنية التي دعمها الحزب الشيوعي العراقي وقتذاك… وسط ذلك الضجيج والتهديدات والضرب الذي عانى منه المعلمون الديمقراطيون على ايدي رجال الآمن والمتعاونين معهم من البعثيين الذين كانوا يضمرون لثورة تموز حقداً مبطناً ويتعاونون بنفس الوقت مع أجهزتها القمعية في تصفية القوى الوطنية والديمقراطية. وبعد انقلاب 8 شباط الدموي، تفرقنا، وأصبحت تلك العلاقة الحميمة علاقة مصحوبة بالحذر بعد تلك الهجمة الشرسة التي (اثمرت) جراحاً عميقة في الذات.. ثم عادت هذه العلاقة بعد زوال حكم البعث بشكل علاقة ودية ليس فيها افق.. وخلال ذلك لم اعرف ان الراحل يمتلك اهتمامات أدبية. وفي عام 1984 فوجئت: عندما احضر ولدي فراس الذي كان تلميذاً في المدرسة الابتدائية، مجموعة قصصية تحت عنوان (شجرة خلف السياج) مذيلة بإهداء كاتبها عبد الحميد عيسى.. فشعرت بالفرح لان احد معارفي قد سلك الطريق الصعب الذي كنت قد قطعت فيه شوطاً مع مجموعة كبيرة وخيرة من أدباء البصرة ومثقفيها وفنانيها.. ومنذ ذلك الوقت تجددت علاقتي بالراحل فكنا نلتقي اسبوعياً في مقر اتحاد الأدباء في البصرة مع مجموعة من أدباء المدينة وكتابها.. وخلال فترة الثمانينات قدم لي رواية مخطوطة ومجموعة من القصص القصيرة.. لقد كانت اهتمامات القاص عبد الحميد عيسى الأدبية متنوعة: قاص مترجم، شاعر ثم كاتب مقالات متابعة لما يصدر لأصدقائه من الشعراء والقصاصين .. كنت مطمئناًً لوجود عبد الحميد عيسى بيننا، على الرغم من مرضه وانقطاعه عن الحضور لمقر اتحاد الأدباء في البصرة، فقد كنت اتابعه وهو يكتب في الجرائد العراقية بشكل مستمر… ولم اصدق انه سيموت فجأة بهذا الشكل… لذا سأبقى مديناً له بعدم المواصلة معه أيام محنته، بعد انتقاله من بيته القديم في الأصمعي الى شقق الموفقية.. في مجموعته القصصية الوحيدة (شجرة خلف السياج) حكايات يرويها سارد عليم او ساردٌ بضمير الأنا الجمعي عن (مقاتل ـ مقاتلين) في جبهة الحرب العراقية الإيرانية ضد أعداء متخندقين على طول الجبهة الممتدة من الشمال الى الجنوب ..ولفظة (مقاتل) كانت تطلق من قبل الجهات الرسمية الحاكمة على مجموعات المعلمين والمدرسين والموظفين الذين كانوا يساقون مجبرين للاشتراك في الحرب في ما يسمى (الجيش الشعبي) وكان القاص ومجموعة كبيرة من الأدباء قد اجبروا على الانخراط في هذا الجيش.. وتتصف هذه الحكايات في هذه المجموعة وفي معظم القصص التي كتبت عن الحرب في بداياتها وحتى منتصفها بالمبالغة في شجاعة هؤلاء (المقاتلين) فتصف قدراتهم القتالية وصبرهم على الصعوبات وشجاعتهم الفائقة في رد الهجمات وكأنهم انصاف آلهة في قوة تحملهم وصبرهم… ويتسم السرد والحوار وبناء الشخصيات في هذه القصص بمفارقة صارخة بين (البطولة الزائفة) وبين واقع الحال الذي يعيشه هؤلاء الناس.. ولذا فإن معظم قصص مجموعة (شجرة خلف السياج) تنتمي الى ذلك الكم الهائل من السرود القصيرة التي انتشرت في الساحة الأدبية العراقية ثم انطفأت وماتت اثناء ولادتها.
لكني أتساءل: هل كان هذا القاص يدرك ان قصصه عن (المقاتلين) المزعومين سوف تموت حال نشرها ولذا ضمّن مجموعته هذه اربع قصص أخرى ذات نزعة مختلفة في الثيمة والاتجاه !!؟
ان الإجابة عن هذا السؤال بعد رحيل القاص ستبقى معلقة، في حين تبقى هذه القصص الأربع محوراً يستحق التأمل والقراءة، وسط ذلك الجو (القتالي) لمعظم قصص مجموعة (شجرة خلف السياج).
نلاحظ اولاً ان عنوانات هذه القصص تحمل بذرة التمرد على القصص (الحربية) وتعمد الى تخطيها صوب أفق رمزي، يحفر باتجاه آخر يشير ولا يصرح وهذه القصص هي: (الذئاب، عاصفة في مدينة نائية، حلم الغربان، شجرة خلف السياج)… والقصص الثلاث الأول تشترك في جو واحد أساسه احلام كابوسية او وقائع مفزعة مفترضة يعيشها شخوص بأسماء او دون أسماء…. ويبدو ان هذه القصص قد كتبت قبل الحرب او في بداياتها، فقصة (الذئاب) فازت بجائزة اذاعية وأذيعت في شهر تموز من عام 1980، أي قبل الحرب بشهرين. اما قصتا (شجرة خلف السياج، وعاصفة على مدينة نائية) فقد نشرتا عام 1981 بعد الحرب بسنة واحدة، في حين نشرت قصة (حلم الغربان) عام 1983 بعد مرور ثلاث سنوات على الحرب… والملاحظ في هذه القصص اعتمادها على السرد التقريري التتابعي أما شخوصها وأمكنتها فهي ذات سمات شعبية وريفية لكنها في بنائها الحكائي تنحو منحى رمزياً، فالذئاب في قصة (الذئاب) تطارد (علوان الهودار) وهو في طريقه إلى قريته المسالمة، وسط استغرابه وتساؤله: (ماذا جرى؟ هل بلغ بها التعطش للدماء هذا الحد بحيث تزمع مباغتة أهل القرية في هذه السانحة..ص10) وقد بلغ الخوف (بعلوان) حداً لا يطاق، فقد تسرب عواء الذئاب (عبر ملابسه وتوغل في أوصاله حتى احتوى جوانبه وانتزع منها الدعة والسكينة… ص10) وهي كناية بليغة عن تجذّر الخوف والرعب في النفس… اما قصة (عاصفة في مدينة أخرى) فمفتتحها يشي بثيمتها (فجأة… يفكر محمود الخلف، ما اتعس ان يخير المرء بين الحياة أو الموت، وما اتعس أن يبقى شبح الخوف يطارده .. ص15) وفي هذه القصة يتم استبدال الذئاب بالعاصفة والغربان السود – وإذا كان علوان الهودار قد مات بأنياب الذئاب القاتلة، فإن (عرفان أخا محمود الخلف) قد مات أيضاً في نهاية قصة (عاصفة في مدينة أخرى). أما قصة (حلم الغربان) فالسارد فيها يروي الحدث ويعيشه في آن واحد. يروي السارد حلماً أخاذاً (عوالم ملونة تكونت حالاً مثل بانوراما منورة، رحبة، لم ألبث حتى ألفيتني أنطلق مأسوراً بين رحاب ذلك الجمال الآخاذ… ص71) لكن ذلك لم يدم طويلاً إذ يتحول هذا الحلم الى كابوس مرعب: (أبصرت رفوفاً من الغربان لم أر لها مثيلاً ذوات مناقير معقوفة الى الاسفل حادة كالنصال … ص72) وخلال ذلك تصاب الشخصية الساردة بالوحدة والضياع (وأنا في هذه المحنة والتوحد آلمني كثيراً رغم تلك المعركة العاتية (…) ان لا أجد من يسمع هتافي ويهب لنجدتني… ص75) .أما قصة (شجرة خلف السياج) فيستثمر القاص فيها (موت شجرة مؤقت) وسط سرد وصفي يستفيد من تقنية عين الكاميرا مرة وتعليقات الذات الناطقة بضمير الانا مرة ثانية.. والقصة تنمو وسط هذا الوصف وتلك التعليقات في حاضنة تمتاز بالعزلة والتجرد من العلاقات التواصلية.. (حتى ان الزرازير التي كانت تلوذ اليها مرحة خافقة بين غصونها وهي تطلق زقزقتها توارت منذ زمن… ص91) .ويلاحظ في هذه القصص الأربع، انها تحتشد بالكنايات والاستعارات الدالة على الخوف والضياع والوحدة.. كما أنها تصور أناساً وسط أجواء الطبيعة المشاكسة، فهي عبارة عن توريات تعبر عن العزلة التي تحيط بشخوصها وتبدد آمالهم في حياة آمنة… كما أنها تشير إلى وسائل الدمار القادمة من خارج ذواتها كالغربان والذئاب والرياح العاصفة، في حين تتجرد هي من وسائل الدفاع اللازمة. أما القصص/ الحكايات المكتوبة عن الحرب فالأجواء فيها ممهدة لظهور (بطولة مزعومة) وسط مجموعة من (المقاتلين) المؤهلين للسيطرة على كل العوائق والصعوبات وباتجاه تمجيدي زائف، يبدو فيه القاص مجبراً على مسايرته… وهذه القصص تشبه مثيلاتها التي كتبها قصاصون عراقيون باتجاه تمجيد الحرب وإضفاء صفة البطولة على المشاركين فيها من العراقيين. وقد بقيت هذه القصص والروايات المكتوبة عن الحرب خارج إطار النقد الجاد، المستقصي هذه الظاهرة وأسباب ظهورها وتوصيف آلياتها بعيداً عن الاتهامات المبطنة لكتّابها بهدف الاستهداف والإثارة… ذلك لأن مثل هذا التناول لن يكون موضوعياً، فالموضوعية من وجهة نظرنا تهدف إلى تناول هذه النتاجات ودراستها على وفق فهم دقيق للظروف الصعبة المهلكة التي نشرت فيها التي (أجبرت) الكثيرين من الكتاب على مسايرة ذلك الوضع بإنتاج أدب ضعيف لا حياة فيه… فالموقف الجاد الصلب من تلك المرحلة يتطلّب وعياً حاداً وواضحاً لم يكن متوفراً لدى أولئك الكتاب والروائيين والقصاصين.
———————
الرسالة التي لم يقرأها عبد الحميد عيسى ..!!
جاسم عاصي :
حين توالى رنين الهاتف,حسبته نداء من أحد الأصدقاء.إذ تركته كالعادة يرن..ويرن. ولحظة سمعت الصوت , كنت على يقين من أني لم أعرف صاحبه , فرحبت به منتظرا ً وضوح الأمر . غير أنه عاجلني مستدركا ً بالسؤال :
ــ هل هذا بيت الأستاذ جاسم ..؟
قلت : ــ نعم هو ..!
ــ كيف حالك أ ُستاذ , أنا عبد الحليم مهودر .
ولأني أعرفه من خلال قصصه في ( ظل إستثنائي ) , فقد آمنت أني أعرفه بعمق من خلال نصوصه تلك , والتي انتهيت توا ً من قراءتها , غير أن السؤال الذي حيرني لحظتها ؛ هو : كيف عرف رقم هاتفي؟ ولولا استدراكه أيضا بالقول: لقد وصلت الرسالة, لكني كنت في أمر يحيرني .قال : لقد اضطررت لفتحها بعد أن كان أمر وصولها مستحيلا ً إلى المرسل إليه ( عبد الحميد عيسى ), مما أثار فيَّ شجناً جديداً, بل زاد من كابوس كنت أتداخل معه , بعد أن قرأت قبل قليل أيضا ً ما كتبه الصديق ( حميد مجيد مال الله ) في عموده في ( طريق الشعب ) . وكانت مهاتفة ( عبد الحليم ) قد بددت كثافة الأسئلة التي لم تجد لها جوابا ً, وقد كنت في ساحة ذهنية بين عبارة ( توفي في 29 أيلول .. يوم نــُشر عموده ( عبد الحميد ), وبين ما قرأت له في ثقافية الطريق طيلة أيام شهر تشرين الأول. وإزاء المكالمة استطاع ( عبد الحليم ) أن يغـّير وجهة الحديث بطيبة متناهية, لكي يخفف مما وجده من تأثر عندي. غير أنه ودون أن يدري ساقته عبارته إلى الحديث عن الراحل وعلاقته الكبيرة والنادرة به .وكنت لا أصغي سوى لبكاء ونشيج كان المهاتف قد أخفاه عني, لكن صوته كان يصاحب تداعياتي, فقد رحلت إلى العام 1982ووجود ( عبد الحميد ) في كربلاء هو وعائلته, تذكرت شغفه في أن يدنو من المشهد الثقافي في المدينة. وكانت لقاءاتنا قد عكست مدى شغف الراحل بالثقافة والأدباء وحماسه لإقامة علاقات معهم, كذلك حماسه للترجمة والتأليف. فقد عرفناه مثابرا ً ومنكبا ً على إنجاز ما هو ضمن حقل اهتماماته, مستثمرا ً زمنه إلى أقصى حالات الإبداع. وهذا ما لاحظته عليه من بعد ذلك, وكم تمنيت أن يدلني أحدهم إلى بيته لكي أزوره أثناء مرضه, أيام مشاركتي في مهرجان المربد . لكني فشلت في أمنية متواضعة وعميقة الدلالة كهذه, فضاعت مني فرصة ثمينة سأذكر عدم تلبيتها ما حييت. ففي يوم عرفت أن أحد ا ً ما يسأل عني بينما كنت أتواصل في التعقيب على محاضرة تقام ضمن فعاليات الإتحاد, سارعت من فوري, إذ سلمني رسالة بعد التحية والسلام, كانت من الراحل ( عبدالحميد ), وبلهفة اندفعت إليها لكي أسد ما كان ينقصني بعد فشل لقائي به في البصرة. فتحت الرسالة في خلوة خاصة, فوجدت أن ما تحتويه هو دفء البصري في تعففه وخجله وكرمه, وحرصه على أن يكون على درجة من الكياسة وإبداء عفوية احترام الآخر وحبه, مرفقا ً عباراته بجملة تكليفات أدبية تخص كتبه في الترجمة والتأليف وفعلا ً أنجزت ذلك وكتبت له رسالة, غير أنها بقيت تبحث عمن يوصلها له, تلك الرسالة التي لم يقرأها ( عبد الحميد عيسى ), لأنها وصلت بعد رحيله, وتلك هي المفارقة. فرسالته حملت هما ً كبيراً عن جور الزمن, وقسوة الأحباب. فالرسالة أرسلت قبل عيد الفطر الماضي, وحين وقعت بيد ( عبد الحليم مهودر ) حار في أمرها, وأنا لا أعرف شيئا ً من مجريات الأمور, إلى أن هاتفني معتذرا ً عن اضطراره إلى فتح الرسالة لمعرفة مرسلها. كان الهاتف قد كشف كل شيء, ورحت أسمع صوت الراحل الذي جاءني هذه المرة حزينا ً تارة ومبتسما ً في أخرى. لم ألمح في حديثه شيئاً من عتب, بل كان متناغما ً مع مراسيم غامضة تنبعث من آماد بعيدة في التأريخ والأمكنة, ليسمعني لحنا ً كان قد انزوى عني في زحمة الحياة ودورانها المقيت… جاسم ..لا تبتئس, فها أني أقرؤك وأكشف مشاعرك, لاتحزن على الرسالة وتتصور أني لم أقرأها, فقد قرأتها من خلال قراءتي لك, قلت:
ــ لكنها لم تصل إليك بالوقت المناسب ..!
ــ لقد وصلتني الآن .
ــ وهل قرأتها ..؟
ــ نعم قرأتها أكثر من مرة , سأبعث برواية القبطان الصغير إلى دار المأمون ولسهيل نجم بالذات كما طلبت مني .
ــ لابد من إرسالها يا أخي .
ــ وسأعد لك الرواية والمجموعة المفقودة من جديد وأرسلها إليك وأنت بدورك توصلها إلى الشؤون الثقافية مشكورا ً .
ــ ابعث كل شيء, قرأت لك في تشرين الأول قصصاً مترجمة في الطريق ,أحثك على النشاط .
ــ سأنشر كل شيء مستقبلا ً وسأثابر ..أعدك …
ثم سمعت صوت ( عبد الحليم ) يقول: كان عبـــد الحميد إنسانا ً كبيرا ً وصبوراً, لم أ ُصدق ولا
أريد أن أصدق خبر رحيله. أما أنا فقد كنت أتواصل مع الصوتين بحيرة وتوجس ورغبة, والصوت يصلني عبر سلك الهاتف من آماد بعيدة. طال الزمن وامتد وعبد الحميد يهاتفني ويحدثني طويلا ً عن رسالة أرسلتها له ولم يقرأها كما كنت أعتقد…
30 / 10 / 2006
————————-
محنة عبد الحميد الكاتب !
مجيد الموسوي :
هل فاجأنا موتُ عبد الحميد عيسى؟
ذلك الموت الماكر الصموت الخفيّ. هل كان عبد الحميد يتوقعه وينتظره ويستعد لملاقاته؟ لقد جرى كل شيء كما لو كنا
ـ نحن ـ ننتظر ونتوقع، ولكن من دون ان نكون مستعدين ! بمعنى اننا تركنا الرجل يهيئ كل شيء بنفسه، من دون أن نحرك ساكنا. وحده مع اسرته البائسة، في غرفة من شقق المدينة: رطبة، وضيقة كالقبر، لا تسع أنفاسهم وأسمالهم. هناك أغمض الموت عينيه، وقاده ببرودٍ وصمتٍ الى الأبدية، كما يحدث في كل مرة للكثيرين منا.
إنني أتساءل الآن، لماذا يحصل كل هذا للمبدعين من اصدقائنا: هكذا يغادرون بهدوءٍ وصمت، لنقيم لهم بعدئذٍ مراسم التأبين والأسف والكلمات، وسط ضجة تبدو في غير أوانها!
حسن، لنقل لا ضير من أن نتذكرهم، وان نبكيهم، وان نأسف لفقدانهم، فتلك جِبلّة إنسانية، ومزيّة مشتركة بين البشر، ولكني اسأل لماذا تتركهم ـ وهم احياء ـ يعانون الوحشة والوحدة والشظف، وكأن الامر لا يعنينا بشيء؟ لماذا لا نلتفت اليهم، ولو مجرد التفاته عابرة، وهم بين ظهرانينا، يتنفسون هواء هذا العالم، الفاني! حتى إذا باغتهم الموت اندفعنا على الفور لاعلان الأسف والمرارة، والتلويح بكلمات الرثاء ! لقد ظل عبد الحميد عيسى يعاني كل هذا في السنوات الأربع الأخيرة، متلهفا الى وجه صديق من اصدقائه يطل عليه حاملاً المودة والأمل، باسطا كفّه ليد حانية تمسح عن روحه وجسده ما كان ينوء به من وهن وعجز وذبول: (حتى ان مجموعته البكر اليتيمة (شجرة خلف السياج) لم يكلف احد نفسه عناء الكتابة عنها ولو من قبيل الاشارة !. لقد كان عبد الحميد يعاني دائيْن ثقيلين قلّما يتحمل عبأهما احد ـ وهن القلب، وبخل الأصدقاء! وكان ذلك يفجر في نفسه على الدوام شعورا باهظا بالوحشة والمرارة والأسى.
هل تذكرنا محنة عبد الحميد بآخرين من اصدقائنا، اصدقاء عانوا الاهمال والنسيان طوال سنوات معاناتهم حتى اذا ادركهم الموت على حين غرة أشرقوا في ذاكرتنا كالحلم، او كالخاطر ـ ثم انطووا كأن لم يكونوا بالأمس !
هل اذكر أسماء :
محمد طالب محمد
مصطفى عبد الله
كاظم نعمة التميمي
مهدي جبر
عبد الخالق محمود
جبار صبري العطية
حتى محمود البريكان! ذكرناه حيناً، وما لبثنا ان نسيناه…. وسواهم الى آخر القائمة الطويلة، التي ستطول آخرين منا !
أليس هذا الامر ينطوي على مفارقة سوداء؟ مفارقة لا تصدق تحدث وسط اكثر الشرائح الاجتماعية والثقافية رهافة وانسانية ونبلاً! صفوة يشكل الانسان وكرامته محور اشتغالها ولب اهتمامها وجوهره! أما كان الأجدر بنا ـ جميعا ـ افراداً وجماعات ومنظمات ومؤسسات، ان ندير اسلوب المحنة ونعكس عقرب الزمن فنكرس احتفالاتنا بمبدعينا في حياتهم. أليس الأوفى ان نكرمهم أحياءً ؟ أليس الأجمل ان نمجدهم وهم على قيد الحياة؟
( أجل قد يكون من الإنصاف الإشارة إلى محاولات مخلصة جرت من الاحتفاء والاحتفال ببعض مبدعينا والاشادة بنتاجهم في أوقات مختلفة، ولكنها كانت غير منتظمة، وجرت على نحو انتقائي في احسن الأحوال ولم تترك اثراً يذكر )
أنا اعرف أن نول الفناء سيظل يدور، وأننا جميعا سنكتب أسماءنا على نسيجه الأسود، ولكنني اعرف أيضا أن المبدعين ـ هم وحدهم ـ الذين يمكرون به ويعلمون ـ بإبداعهم على تعطيل دورانه الوحشي! اعرف أن الفن وحده يوقفه ويفتته!
فيا أيهذا الصديق عبد الحميد
فليرقد جدثك بسلام
وسلاماً على روحك حياً وميتاً
فلست الأخير الذي نسيناه حياً
وذكرناه ميتاً !
خريف 2006
———————-
قساوة الخذلان…
جاسم العايف :
بلا ضجيج وبعد مرض نهكه شيئا فشيئا انطوت صفحة الصديق القاص والمترجم “عبد الحميد عيسى”..وقد وضع ذلك الرحيل حدا لعذاباته التي كانت في جزء أساسي منها معنوية وهو يأمل في من يستطيع ان يتبنى مسألة شموله برعاية بسيطة هي حق وليس منّةّ من احد وهي التزام وليس مكرمة ، في زمن نتخيل انه جديد حقا وفعلا، فلعلها تدفع توقف قلبه في وقت لم يكن مناسبا له ولنا، فلقد خطط لمشاريع كثيرة في الكتابة والترجمة من اجل ان يساهم في صياغة المشهد الثقافي الراهن في وطنه وفي بصرته التي لم يغادرها والتي استودع “شجرته الوحيدة خلف سياجها” وظل يسقيها من روحه وبساطته ومواصلته بدأب الكتابة حتى خذله قلبه الذي نهكه البؤس والحرمان والاحساس المتناهي بالاهمال وباللاعدالة في هذه الحياة التي اخذت منه الكثير ولم يستطع في منعطفاتها ان يقول كل ما يمكن له ان يقوله في زمن الانحطاط والقسوة وجريان الدم العراقي الحالي.. وبقيت تلك الآمال تحفر في أعماقه بحدة إزاء ذلك الاهمال المعتاد المعروف الذي يحيط بكل من لا يجد من يدفع عنه غائلة المرض والعوز والحماية في زمننا الرديء الموحش الرث بالنسبة لمن لا يساهم في ارتهان روحه وذاته وقلمه ومواقفه تحت يافطات القتل العراقي اليومي وتفعيل العزلة وخطابات وبرامج الطائفية والمحاصصة والتخندق خلف خطابات رثة عفا عليها زمن التحضر والإنسانية منذ آماد ووجدت في أرضنا الآن من ينفخ في رمادها الوسخ القبيح والذي سينطفئ حتما بعاره الأكيد.. خلال مرض عبد الحميد عيسى بقي الشاعر “مجيد الموسوي” ملتاعا يحث وينادي بهدوئه المعتاد –”: أيها الأعزاء ان حميدا يذوي ألا من ينادي لفعل من اجله..ألا من يلتزمه في محنته.. قلبه سيخذله.. وسيتسرب منا ذات يوم.. وسنندم جميعا على ذلك..”وبقيت لوعة مجيد ونداءاته المتكررة تجوب صحراء تخلو من الصدى..في جريدة مربد هذا العام حمل اخي “مجيد الموسوي” ليّ همَّ “عبد الحميد عيسى” الذي تملكه بشكل شخصي بصفته حقا وواجبا ووفاء. وفي العدد الأول من جريدة “المربد” توجهنا بنداء بسيط تمنينا فيه السلامة لعبد الحميد وللشاعر حامد عبد الصمد البصري الذي هو الآخر يواجه حتى اللحظة محنة مرضه وحيدا، قانطا، وطالبنا المؤسسات العامة والخاصة المعنية بالثقافة والمثقفين ان تلتزمهما وتخفف عنهما غائلة المرض وبما ينسجم وغنى وطننا المعروف.. الا ان ذلك لم يحصل ..ويبدو انه لن يحصل في العراق الثري.. الشحيح على بنيه بكل شيء.. إلا بالإهمال والردى .
———————–
كانت هناك شجرة تذوي خلف السياج
حسين عبد اللطيف ”
( إلى الراحل عبد الحميد عيسى )
… لفرّطتُ لك الرمان
وصحت : (في صحتك)
وليلةً سعيدة، مقمرة
لو أن لي فحسب
إلى تلك الشجرة
خلف
السياج (1)
من معبرٍ أو سبيل..
ولكن هيهات..
فقد تمّت الحكاية
وهذه نهايتها..
فما نفع النحيب
وما جدوى الندم!
وقد غادر الأخلاّء
دون وداع.
إن نفسي ستبكتني
– وكم ستبكتني نفسي –
لأني لم أعدك
قبل ان يخّب بك الجواد
إلى المثوى الأخير
” بان الخليطُ.. ولو طوعت.. ما بانا ” (2)
في تلك السنوات العجاف
التي بعُدت، بعد أن أمعنت فيناً طعناً
كنت قد هيأت نفسي لسماعك
إلا أنك لم تتفوه بسوى كنيتي
إذ قلت ” أبا رسال ”
دون ان تزيد حرفاً!
ثم لتسكت وتلوذ بالصمت
مما اضطرني لأن أفهم الإشارة
وأترجم ما في دخيلتك
من معنى أو قول لم تفصح عنه
ولكني أقرأ فيه :
” مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة ” (3)
فأهرع إليك
– أنا نظيرك في المرارات –
فأمد يدي إلى جيوبي
لأخرج منها حصاة
أقول لك: خذها
لعلها تدفع عنك الغائلة
أو تجلب لك الرزق
ولو كانت لي بين هذه القوافل
المحملة بالأقوات، ثمة.. قافلة
لسيّرتها معك إلى الدار
حتى أكفيك مؤونة الوقوف
على باب (فلان)
أو (فلان)
أو (فلان)
لتعرض حاجتك
لأن أيا منهم لم يعرف عنه يوماً
أنه فكّ عن أحد ضائقة
أو بسط يداً…
فما في (البارح) مطر!
أوَ لم تقرأ كتاب الجاحظ (4)
أو سجل (gennis) للأرقام القياسية
فثمة الكثير من المقتّرين اللئام، أمثال هؤلاء
ينزلون هناك
واهابتك ليست بهم على الإطلاق
ومع ذلك، فإنك الآن
– بقلبك كثير الثقوب –
لم تعد تلوي على شيء
أبداً
وإنما
اخترت
مع اوكزوبري
” الطيران إلى آراس ” (5).
(1) شجرة خلف السياج- مجموعة الراحل القصصية – والقصيدة (منعاة) له.
(2) الشعر لجرير.
(3) سورة يوسف
(4) كتاب الجاحظ – (البخلاء) تحديداً، وكما يفهم في السياق
(5) الطيران إلى آراس – لسانت أوكسوبري – آخر ما ترجمه الراحل ونشر بعد وفاته بأسبوع أنظر (المنارة)
3-4 أكتوبر عدد 321-2006.
————————–
ببلوغرافيا
اعداد – حسام عبد الحميد عيسى :
– عبد الحميد عيسى عبد الواحد عيسى المبارك
ـ ولد في البصرة عام 1940
ـ تخرّج في دورة تربوية بعد الاعدادية.
ـ عمل معلماً للغة الإنجليزية.
ـ عضو الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العراقيين.
ـ عضو الاتحاد العام لاتحاد الأدباء العرب .
ـ كتب القصة والشعر والترجمة. وفي الستينات كانت بداياته، ونشر العديد من كتاباته في الصحف والمجلات العراقية والعربية.
وله :
ـ المجاميع القصصية هي :
1. شجرة خلف السياج مطبوعة عام 1984 صادرة عن دائرة الشؤون الثقافية العامة / بغداد
2. انترنت الصحراء لدى دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد عام 2004 تحت الطبع
3. القطار الأخير مجموعة قصصية مترجمة لدى دار المأمون للترجمة والنشر عام 2004 تحت الطبع
الروايات :
1. ما وراء الأفق رواية مطبوعة لدى دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد ـ عام 2003 لم تطرح بسبب الغزو الأمريكي في آذار 2003
2. روايتان مترجمتان للفتيان هما “مجوهرات شانديبور” و “متاعب في كولينجيجان” لدى دار ثقافة الأطفال / بغداد 1989 /
مجاميع قصصية وروايات مخطوطة :
1. وهج السنين مجموعة قصصية
2. قناديل الأمل مجموعة قصصية
3. قصائد من كل مكان مجموعة قصائد مترجمة / منشورة
4. تذكرت شيئاً ! مجموعة مقالات ومواضيع / منشورة
5. اضاءات في الطريق مجموعة اضاءات نقدية / منشورة
– أصيب بارتفاع ضغط الدم ـ السكري المتقدم ـ ذبحة صدرية ـ عجز القلب ـ توفي في 27/9/2006