كان الشعر العربي قديماً سجلاً للوقائع التاريخية و البطولات الثائرة التي استباحت أفكار العرب ، و راودت قلوبهم و ألهمت أنساقهم الثقافية ، فنرى المهرجانات الشعرية قد ألِفت أسواق العرب و احتلت مكانة شاهقة في ساحاتهم الأدبية كعكاظ وذي المجاز ، فقد تزهق النفوس كرامة لبيت من الشعر أو خطبة من خطب العرب كتلك التي ألفت في بني نمير على سبيل المثال ، و لا يمكن حصر أدبنا العربي بأنه كان وثيقة تاريخية فقط بل كان قيمة جمالية كما في أوصاف البحتري للقصور و البرك و وصف الطبيعة الأندلسية الملهمة التي احتلت مكانة عالية في شعر ابن خفاجة و ابن زهر و غيرهم ، ناهيك عن المقدمات الغزلية الرائقة ، و القيم الإنسانية و المثل العالمية عند شعراء الصعلكة كبطولات عروة بن الورد ، بل و المقامات المأساوية كمراثي الإخوان في شعر الخنساء ، و مراثي النفس كمرثية أبي عميرة ، بالإضافة إلى رثاء أعضاء الجسم و المدن الضائعة ، و الحديث عن فلسفة الوجود و الحياة للمعري ، فيمكن القول أن الشعر العربي اسم جامع للحياة بكل ما فيها .
و مع إطلالة عصرنا الحديث نجد الحداثة و قد فتحت ذراعيها لأنماط الحياة ، و إن كانت الحداثة عبارة عن منهج مبهم سواء أكان في المفهوم أو الحقبة الزمانية ، فهي مجموعة التغييرات المختلفة في أساليب الحياة ، و أما زمنها فهو مختلف فيه و لا داعي لذكره ، أما البيئة المكانية فهي ـ في عصرنا ـ من مواليد أوروبا التي شهدت نماذج كثيرة من المخترعات من الآلة الطابعة مروراً بالقوانين العلمية المبرهنة و النظريات الفردية الخالدة ، إلى أن وصلنا إلى العصر الذي ينطلق كحصان جامح ، فنكاد لا ننام و نصحو إلا و نجد أنفسنا أمام سمة حداثية جديدة ، و فكرة عبقرية سهلت عملية التواصل الاجتماعي ، و الثقافي ، و التجاري .
و بالرغم من أن الحداثة ارتبطت بالتقدم العلمي و المخترعات الحديثة إلا أنها كانت أشد تأثيراً على الأدب انطلاقاً من أنه ساعي البريد الذي يفتح الثقافات للتواصل و التلاقح ، و يسهل عملية توارث النصوص من جيل إلى جيل على اختلاف ثقافتهم إلى تفسير الواقع تفسيراً ممنهجاً بعيداً عن الهمجية ، فالأدب المتوارث حلقة الوصل بين الأجيال و معيار لوعي الشعوب المرابطة على التواصل فيما بينها .
و مع هذه النظرة العجلى لمفهوم الحداثة و بعدها المكاني و ليس بداعي العاطفة العربية التي تجري مع تدفق الدم العربي في أنحاء جسدي ، نرى أن للحداثة جذوراً في أدبنا العربي يمثلها أبو تمام الطائي في شعره الذي مر عليه سنوات و سنوات ، فقد كان على علم بالشعر القديم الذي سبق زمانه الذي عاش فيه ، متمكناً منه ، حافظاً لأربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيزهم ، و مع ذلك ثار عليه ليثبت لنفسه نسقاً حداثياً جديداً ، و لست بصدد الحديث عن شعره بقدر ما أحتاجه هنا في تأكيد حداثية شعره ، فمن أبرز أنساقه الحداثية أنه كان ممثلاً لمدرسة البديع حتى وصف بأنه ” أحد أمراء البيان ” ، فقد أكثر من المحسنات البديعية في صنوفها المتعددة الأمر الذي يعد عيباً في عصره ، فيوشك ألا يقول بيتاً من الشعر إلا و يضمنه شيئا منها ، بالإضافة إلى ما وصف بتعبير الغرابة في شعره حيث خرج عن الاتباع في الشعر القديم الذي كانت تتمثل بالشعر البدوي و ما يرافقه من ألفاظ تتسم بفخامة المعنى و يتم تداوله بينهم في المجالس و الحروب ، و لعل ذلك يكون بسبب طبيعة حياة البدوي المحفوفة بالمخاطر من كل حدب و صوب ، فهو بين الحروب و الوحوش البرية و الجوع و العطش ، تماماً كقيمة الكرم في حياته ، فيزعم كثير من النقاد و الباحثين أن العربي اتسم بالكرم بسبب طبيعة حياته القائمة على الترحال فقد كان يكرم ضيفه لأنه سيكون يوماً ما ضيفاً محتاجاً إلى من يكرمه في أثناء سفره وسط الصحراء القاحلة .
لكن أبا تمام لم يعش هذه الحياة الموحشة المليئة بالمصاعب بل تربى في كنف الحواضر ، و عاش حياة الترف ، ليقوده ذلك إلى تغيير النسق الثقافي المتعارف عليه ، ليحدث لنفسه نسقاً ثقافياً جديداً و هو ما يعرف في عصرنا بالحداثة ، و لذلك ظهرت بعض الأقلام التراثية التي ثارت على منهجه في الشعر بعدم اتباع الطرق التقليدية ، و لعل أبرزها جرأة ، و أكثرها مداداً ” الموازنة بين الطائييْن ” لأبي قاسم الآمدي ، حيث فرق فيه الكاتب بين نسقين شعريين في القرن الثالث الهجري ، يتمثل الأول بالبحتري الذي حذا حذو الشعراء الأوائل ، و الثاني بأبي تمام الذي كان منه ما سبق ، و بالرغم من مقدمته التي أعرب فيها الآمدي عن حياديته إلا أنه صدح بتحيزه الشديد للبحتري في كثير من المواقف ، و منها أنه أورد عبارة قالها أصحاب البحتري في الاحتجاج على لسانه ” جيده خير من جيدي و رديئي خير من رديئه ” ، و كيف أثبت أن هذا القول يصب في مصلحة البحتري ، فالبحتري يعلو و يتوسط ، أما أبو تمام فإنه يعلو و يسقط و يسفسف ، فيحكم بالتالي على تقديم البحتري على صاحبه .
في العصر الذي عاش فيه أبو تمام تطورت أذواق الناس في المستويات الثقافية كافة ، و ضاقت قلوبهم عن مطالعة المطولات الشعرية ، فجاء ليحقق لهم مطلبهم بالاستعاضة عن تلك المطولات ، فجمع المقطوعات القصيرة من شعر السابقين إلى جانب عدد من شعراء عصره في حماسته التي لاقت رواقاً عظيماً حتى دُرست و شرحت ، و هذا يقودنا إلى نتاج غاية في الأهمية و هو أن علم أبي تمام تفوق به على شعراء عصره ، فالشاعر العالم خير من الشاعر تماماً كوظيفة الناقد الذي ينقد الدراهم و لا يقبل إلا حكمه
لا بد من أن أبا تمام شق لنفسه طريقاً في الصخر وسط الزحام و وضع تجربته الفريدة في تراث شعري مدجج بالشعراء الأوائل النقاد الذين ما فتئوا يقدمونهم على المحدثين ، و بأغراض الشعر المطروحة ، فتصرف فيه و أكثر ، و لم يكن ينهل من القليل الشاذ فيستعمله كما يزعم بذلك بعض النقاد للتخفيف من مصطلح الحداثة التي أثبتها أبو تمام لنفسه ، و لكنه كان غواصاً للمعاني ، مقداماً على الألفاظ ، فخرج شعره مزخرفاً بالاختراع و التوليد ، فما أجمل البديع في قول قائل :
لـوْ أنَّ دهــراً ردَّ رجــعَ جـــوابِ أوْ كـفَّ مـنْ شـأويهِ طـولُ عتابِ
لـعـذلـتـهُ فـي دمـنـتـيـنِ بـأمــرة مَـمْـحُـوَّتَــــيْـنِ لِـزَيـْنـَبٍ ورَبَـــاب ٍ
ثِــنْـتَانِ كالـْقَمَرَيْـنِ حُـفَّ سَنَـاهُمَا بِـكَــوَاعِـبٍ مِـثْـلِ الـدُّمَـى أَتْــرَابِ
مِنْ كُـل ريـم لَـمْ تَـرُمْ سُـوءاً ولَـمْ تـَخْلِـطْ صِـبَـى أيّـَامِـها بِتـَصَـابِي