يتناول فيلم الأخضر بن يوسف الذي قام بإنتاجه جودي الكناني وباسل علي عمران، المخرجان العراقيان المقيمان في الدنمارك، واتيحت ليّ فرصة الحصول عليه بشكل خاص قبل أيام، مفصل من حياة الشاعر العراقي سعدي يوسف. وهو فيلم تسجيلي يجسد استرجاع الذاكرة في تحدٍّ لمحاكاة تراجيديا موت مفاجئ، استطاع مخرجا الفيلم أن يضعانا بشكل وآخر أمام مهمة تفسير الصراع مع الحياة بحكمة وإثارة عن طريق التعاقد مع حرفيات التصوير كالاستفادة من العمق البؤري وقياس الزوايا وإطلال الضوء والحركة والتناسق وتجسيد التعبيرية أو قدسية النص السردي بشكل رائع، مما أعطي الفيلم أهمية وصفية أقرب إلي التجريبي الذي جعل منه حالة تبدو وكأنها نادرة..
فسعدي يوسف الذي يواجه عدسة الكاميرا في أكثر من موقع، تارة يتحدث باقتضاب مفرط، وتارة يلقي بعضاً من قصائد رثاء وكأني به ينعى من جديد ابنه البكر الذي رحل في وقت مبكر وترك لديه ندبة مؤلمة. كان متأثرا إلي أبعد الحدود بالمعاني التي تجسد العلاقة العاطفية بين الأب والابن الراحل بوسيلة تصويرية انتزعت “الذاكرة” نحو الماضي بشكل درامي غير محدود. بيد أن “المخرج” قد أبدع بشكل متنام في استقراء السرد التصويري وتغليبه علي ” التقليدية” أو الاقتراب كثيراً من الوصف النصي حتى بلغ ذروة “استعارة الذاكرة” بدهاء. وجعل دور الابن الغائب أكثر حضوراً من الشخصية الرئيسية التي بدا دورها ثانوياً اقتصر علي البحث عن تلك الذاكرة بشكل مجازي لاعتبارات العلاقة التي لا زال الوجدان يحافظ عليها رمزياً.. فشخصية “الطفل” التي لعبت دور الابن في الفيلم والتي أعطاها المخرج قيمة خاصة ومتناقضة، الهروب بعيداً إلي عوالم الطفولة، التأمل والصراع النفسي المحتدم خوفاً من الرحيل إلي عالم مجهول، العنفوان والتمرد، كشفت عن أهم عناصر الفيلم البنيوية والأسلوبية والإبداعية وجعلت نطاق الشكل والمضمون أكثر انسجاما.
وفيلم “الأخضر بن يوسف” الذي أنجز في حزيران 2009 لا يتجاوز 35 دقيقة وتم تصويره علي ما أعتقد بواسطة كاميرا (DV). ويخلو من سلطة إنتاجية معقدة كالمال والطواقم التقنية والفنية المعروفة في مجال الإنتاج، إنما بإمكانيات وجهد فردي متواضع لم يمتلك وحدة صوت وإضاءة واحدة. في نظري إنه فيلم من الناحية الفنية تصويراً وإخراج مكتمل، فالمعالجة Treatment إذا ما أخذنا الفكرة الأساسية “إعادة الذاكرة” وليس التصور علي أن الفيلم يوثق لشخصية مثل سعدي يوسف “بروتريه” حيث لم يكن كذلك، جاءت منسجمة تماماً علي الرغم من افتقار الكثير من المؤثرات المطلوبة، ألا إن توزيع المشاهد Scenes كان فيه بعض الارتباك بسبب الازدواجية وتعدد الأماكن التي فات المخرج الفصل بين التفاصيل غير اللازمة والبنيوية.. وعلي أهميته للتعبير عن رفض شخصية الفيلم “سعدي يوسف” للاحتلال وغزو العراق، فإن مشهد الوقوف علي أطلال البصرة باتجاه الخليج ومراقبة عمليات القطعات الحربية الأمريكية في عرض البحر، يبقي دخيل علي طبيعة السرد البنيوي وخصوصية الموضوع. إذ إن الفيلم يتناول مرحلة معينة في حياة إنسان، وليس سيرة ذاتية “بروتريه” مرتهنة لعامل المكان والزمان ومعاصرة أحداث كثيرة خلال حقبة تمتد لعقود. حيث ينبغي علي الكاميرا أن تتنقل بين مواقع الأحداث في أداء تمارس فيه كل الأدوات بدقة وأهمها التوليف والمؤثرات الرمزية والبصرية واسترجاع الماضي “Flashback” واختيار المشاهد التي تلائم النص لأجل الإثارة والمتعة.
وبعيداً عن ذلك القنوط الذي اعتلي وجه شخصية الفيلم في أغلب المواضع، واستقطاع أنفاس المشاهد الذي كان شديد الشغف لسماع روايات دقت أروقة فضوله في حياة هذا الشاعر الذي عاصر مراحل أدبية وفكرية وسياسية هامة من تاريخ بلاده، استحال الفيلم سرد أحداثها وتركت فسحة من التساؤلات المبهمة لديه. اتجه المخرجان لتفسير “الحس” وتفكيك رموزه عن طريق الربط بين “الذاكرة والحدث” اللذان قادانا باتجاهها البصري، فناً ونصاً. كما ركزا إلي أبعد الحدود علي أهمية التعبيرية التي يجسدها فن التصوير ويستقبلها المتلقي بطراوة. إن استعمال مشاهد لا علاقة لها بالموضوع من ناحية السرد الدرامي، أو إدخال مشاهد رديفة للنص قد جزء الفيلم وأبعده عن هامشه النمطي الذي أراد للذاكرة أن تكون الخيال الذي يؤرق لرسم الصورة هدفاً ومضموناً.. ما أثار إعجابي إلي جانب همس “الذاكرة” عبر الوسيط السينمائي بطريقة فلسفية مقننة، اللقطات القريبة التي بدت فيها الحركة أكثر وضوحا كالاقتراب من البحيرة وقت الغروب وتسليط الكاميرا علي المياه التي تحركها العواصف والأمطار فيما الغيوم في وسط السماء تبدو قرمزية اللون تتحرك بسرعة فائقة، أو سقوط الشجرة باتجاه الكاميرا عمودياً ثم تكرار أللقطة Shots بمضاعفة عدد الأشجار، في تعبير إيحائي يرمز إلي تضاؤل المسافة بين الحياة والموت، الخوف والقلق من عوالم الزمن واعتباراته. أيضاً كيفية مواجهة الكاميرا لسقوط شعاع النور علي الطبيعة والبحر والمدينة، كلها أعطت الفيلم قيمة فنية اعتبارية جعلته جزءاً من عالم آخر يصبو للتجديد والحياة.
عصام الياسري
برلين 14 اكتوبر 2009
فسعدي يوسف الذي يواجه عدسة الكاميرا في أكثر من موقع، تارة يتحدث باقتضاب مفرط، وتارة يلقي بعضاً من قصائد رثاء وكأني به ينعى من جديد ابنه البكر الذي رحل في وقت مبكر وترك لديه ندبة مؤلمة. كان متأثرا إلي أبعد الحدود بالمعاني التي تجسد العلاقة العاطفية بين الأب والابن الراحل بوسيلة تصويرية انتزعت “الذاكرة” نحو الماضي بشكل درامي غير محدود. بيد أن “المخرج” قد أبدع بشكل متنام في استقراء السرد التصويري وتغليبه علي ” التقليدية” أو الاقتراب كثيراً من الوصف النصي حتى بلغ ذروة “استعارة الذاكرة” بدهاء. وجعل دور الابن الغائب أكثر حضوراً من الشخصية الرئيسية التي بدا دورها ثانوياً اقتصر علي البحث عن تلك الذاكرة بشكل مجازي لاعتبارات العلاقة التي لا زال الوجدان يحافظ عليها رمزياً.. فشخصية “الطفل” التي لعبت دور الابن في الفيلم والتي أعطاها المخرج قيمة خاصة ومتناقضة، الهروب بعيداً إلي عوالم الطفولة، التأمل والصراع النفسي المحتدم خوفاً من الرحيل إلي عالم مجهول، العنفوان والتمرد، كشفت عن أهم عناصر الفيلم البنيوية والأسلوبية والإبداعية وجعلت نطاق الشكل والمضمون أكثر انسجاما.
وفيلم “الأخضر بن يوسف” الذي أنجز في حزيران 2009 لا يتجاوز 35 دقيقة وتم تصويره علي ما أعتقد بواسطة كاميرا (DV). ويخلو من سلطة إنتاجية معقدة كالمال والطواقم التقنية والفنية المعروفة في مجال الإنتاج، إنما بإمكانيات وجهد فردي متواضع لم يمتلك وحدة صوت وإضاءة واحدة. في نظري إنه فيلم من الناحية الفنية تصويراً وإخراج مكتمل، فالمعالجة Treatment إذا ما أخذنا الفكرة الأساسية “إعادة الذاكرة” وليس التصور علي أن الفيلم يوثق لشخصية مثل سعدي يوسف “بروتريه” حيث لم يكن كذلك، جاءت منسجمة تماماً علي الرغم من افتقار الكثير من المؤثرات المطلوبة، ألا إن توزيع المشاهد Scenes كان فيه بعض الارتباك بسبب الازدواجية وتعدد الأماكن التي فات المخرج الفصل بين التفاصيل غير اللازمة والبنيوية.. وعلي أهميته للتعبير عن رفض شخصية الفيلم “سعدي يوسف” للاحتلال وغزو العراق، فإن مشهد الوقوف علي أطلال البصرة باتجاه الخليج ومراقبة عمليات القطعات الحربية الأمريكية في عرض البحر، يبقي دخيل علي طبيعة السرد البنيوي وخصوصية الموضوع. إذ إن الفيلم يتناول مرحلة معينة في حياة إنسان، وليس سيرة ذاتية “بروتريه” مرتهنة لعامل المكان والزمان ومعاصرة أحداث كثيرة خلال حقبة تمتد لعقود. حيث ينبغي علي الكاميرا أن تتنقل بين مواقع الأحداث في أداء تمارس فيه كل الأدوات بدقة وأهمها التوليف والمؤثرات الرمزية والبصرية واسترجاع الماضي “Flashback” واختيار المشاهد التي تلائم النص لأجل الإثارة والمتعة.
وبعيداً عن ذلك القنوط الذي اعتلي وجه شخصية الفيلم في أغلب المواضع، واستقطاع أنفاس المشاهد الذي كان شديد الشغف لسماع روايات دقت أروقة فضوله في حياة هذا الشاعر الذي عاصر مراحل أدبية وفكرية وسياسية هامة من تاريخ بلاده، استحال الفيلم سرد أحداثها وتركت فسحة من التساؤلات المبهمة لديه. اتجه المخرجان لتفسير “الحس” وتفكيك رموزه عن طريق الربط بين “الذاكرة والحدث” اللذان قادانا باتجاهها البصري، فناً ونصاً. كما ركزا إلي أبعد الحدود علي أهمية التعبيرية التي يجسدها فن التصوير ويستقبلها المتلقي بطراوة. إن استعمال مشاهد لا علاقة لها بالموضوع من ناحية السرد الدرامي، أو إدخال مشاهد رديفة للنص قد جزء الفيلم وأبعده عن هامشه النمطي الذي أراد للذاكرة أن تكون الخيال الذي يؤرق لرسم الصورة هدفاً ومضموناً.. ما أثار إعجابي إلي جانب همس “الذاكرة” عبر الوسيط السينمائي بطريقة فلسفية مقننة، اللقطات القريبة التي بدت فيها الحركة أكثر وضوحا كالاقتراب من البحيرة وقت الغروب وتسليط الكاميرا علي المياه التي تحركها العواصف والأمطار فيما الغيوم في وسط السماء تبدو قرمزية اللون تتحرك بسرعة فائقة، أو سقوط الشجرة باتجاه الكاميرا عمودياً ثم تكرار أللقطة Shots بمضاعفة عدد الأشجار، في تعبير إيحائي يرمز إلي تضاؤل المسافة بين الحياة والموت، الخوف والقلق من عوالم الزمن واعتباراته. أيضاً كيفية مواجهة الكاميرا لسقوط شعاع النور علي الطبيعة والبحر والمدينة، كلها أعطت الفيلم قيمة فنية اعتبارية جعلته جزءاً من عالم آخر يصبو للتجديد والحياة.
عصام الياسري
برلين 14 اكتوبر 2009