هذا الصوت جرني الى سنوات بعيدة خلت عشتها في مدينة الثورة أواخر الستينيات , عندما كان ( عاشوراء ) , كما كنا نطلق على جميع الأيام العشرة الأولى من محرم , مناسبة تهم الصغير والكبير بلا استثناء , رجالا ونساء , كان الوجوم والحزن يسيطران على جميع مرافق الحياة , حتى محلات التسجيلات كانت توقف بث أغاني ( عبادي العماري ) و( حسين سعيدة ) و( سلمان المنكوب ) وتستبدلها بالمحاضرات الدينية واللطميات , أما الناس فإنهم يكادون ان يرتدوا زيا موحدا هو الأسود خصوصا النساء ويصبح هذا اللون عنوانا بارزا في الحياة اليومية بمدينة الثورة التي يقطنها العمال والفلاحون النازحون من الجنوب والتي أسسها الزعيم عبد الكريم قاسم , يوم العاشر من محرم , وقبل ذلك بيومين تنبسط الأسارير قليلا في عرس القاسم حيث تضاء الشموع وتوضع مع أغصان الياس بأوراقه العطرية المغروسة بالحناء والحلوى في ( صينيات ) , ويتجول هودج العروس في الأزقة والساحات العامة , ومن بعيد يأتي أولاد مسلم بثيابهم الخضر مرددين :
“احنه أولاد مسلم والدهر خان
فكنه من السجن بالله يا سجان “
قبل ذلك نتجمع قرب احد البيوت لنرى مشهد قتل مسلم بن عقيل ورمي جثته من اعلى السطح تجسيدا لمشهد رمي جثة مسلم بن عقيل رسول الحسين بن علي ( ع) الى أهل الكوفة من اعلى قصر الأمارة الذي كان مركز الحكم , طبعا يتم الاستعاضة بدمية , ويتعالى الصراخ والتجمهر حول الدمية , بعض النسوة يتبركن بالتراب الذي تسقط عليه الدمية في حالة تداخل تام بين الواقع والتاريخ – بعد سنوات وأنا أتجول في ضريح مسلم بن عقيل في الكوفة مع صديقي الشاعر عدنان الصائغ رأيت مكانا منخفضا ترى به القمامة سالت الصائغ عنه فقال : انه بقايا قصر الأمارة , لاحظوا كيف ارتفع بنيان الشهيد المطرز بمحبة الناس وكيف هوى الباطل !!!؟
* *
ما زال نظري شاخصا في الصورة الجامدة بشاشة التلفزيون وأذني تسمع : جابر يجابر ما دريت بكربله اشصار بصوت الرادود حمزة الزغير – لاحظوا مفردة ( الرادود ) إنها خاصة بالعزاءات الحسينية , لم يطلقوا على المرحوم ( حمزة ) وسواه ممن اشتهر بهذا النوع من الأداء , منشدين ولا مؤدين ولا رواة – كما يتردد في كتب التراث – والمصوت والرداد – كما يتم تبادل هذه المترادفات في منطقة الخليج لمعنى واحد ووظيفة واحدة تتعلق باحتفائية دينية وغير دينية في بعض القصائد التي يقوم بإنشادها المنشدون وتختلف طرق الإنشاد باختلاف المناسبة ففي الحسينيات حيث يخيم جو استذكار مقتل الحسين وحيث تصبح النفوس مفعمة بذكرى أليمة فان الرادود او الرداد او المنشد او المصوت يتخذ نغما او لحنا حزينا يتغلغل وينفذ الى أعماق النفس الحزينة فكأنه يتجاوب مع حزنها وكأنه يمثل انعكاسا لمرآة الحزن التي تعرض صور المأساة وإذا كانت المناسبة دينية كالموالد الدينية فان الانشاد يأخذ لحنا آخر يتعلق بمضامين المناسبة في مدح الرسول وفي تعظيم المسلمين للرسول الكريم وفي ذكر صفات الرسول باعتباره القدوة الحسنة وهناك قصائد صوفية تعلقت بها المناسبات الدينية لأنها تتناول هذا الجانب الروحي كالبردة للبوصيري وكأشعار عبد الرحيم البرعي وغيرهما من الشعراء واذا كانت المناسبة تتعلق بالقضايا الإجتماعية كالحماسة الإجتماعية فان ايقاع الانشاد ولحنه ينطلق مزهوا ومفجرا لدواعي الحماس ويكون ايقاعه اكثر سرعة وطنينا وهو ما يتناسب هارمونيا مع مقتضيات حال المناسبة .واذا كان للشاعر حق مادي فيما يسمى بحق الملكية الفكرية فان حق الإنتفاع الإنساني من جماليات الابداع الذي يتسرب الى وجدان الانسان يمتليء به فكره وإحساسه وقلبه يمثل تعويضا مجزيا للشاعر الذي أبدع هذه الجماليات , وهكذا حفظ الرادود حمزة الزغير حق الشاعر كاظم منظور الذي أبدع (جابر يجابر ) محاولا استدعاء شخصية جابر الأنصاري الذي تخلف عن الركب السائر الى الكوفة, لانه كان ضريرا فطلب منه الحسين بن علي البقاء في المدينة , وهنا يحاول الشاعر ان يروي الذي جرى في غيابه عبر خطاب وصفي مؤثر كان هو الأجمل بالنسبة لنا في طفولتنا دون ان نعرف من يكون ( جابر ) وربما من هنا كانت بداية اهتمامي ,بكتابتي الشعرية اللاحقة , برسم الشخصية والبحث في بطون كتب التاريخ مستدعيا رموزه.
* *
تأثير تلك الطقوس ظل مخزونا في ذاكرة الطفولة لطفل يعيش في بيئة ينحدر معظم سكانها من جنوب العراق لتتفجر إنفعالات وجدانية تلقي ظلالها على روح النص ففي أواخر ستينيات القرن الماضي حيث عاشوراء بطقوسها الإحتفالية على امتداد الأيام العشرة الأولى من شهر محرم التي تبدأ بمجالس العزاءات النسائية في البيوت (التي تحييها الملاية) والرجالية في البيوت والساحات التي تتشح بالسواد وطوابير الرجال الذين يضربون (الزنجيل) بظهور عارية ,دامية ,عليها خطوط سوداء ,ورغم هذا السواد كنا نترقب بشوق ليلة(عرس القاسم) عندما يزف داخل هودج وسط هلال نسوة مفجوعات في مفارقة عجيبة تجمع الفرحة على طبق الفجيعة !
وتنثر أصابع الحلوى وترفع غصون الياس ,وكنا نحمل الشموع في (صينيات)صغيرة بدور بها بين الأزقة ,ولما كانت ليلة (عرس القاسم) –والقاسم هو نجل الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) حيث أخذته واقعة الطف ليلقى الشهادة في خضم عرس دام – لا تنتهي بمأساة مجسدة لكن ليلة موت مسلم بن عقيل تختتم بمشهد تراجيدي يجري تجسده في أكثر الليالي حزنا وأذكر أن قبل ذلك كان الذي يؤدي دور مسلم بن عقيل يصلي بأهل الكوفة فيحتاج المشهد الى مصلين يؤدون دور (كومبارس)
حيث يجسد المشهد التفاف أهل الكوفة حول مسلم بن عقيل عند وصوله الكوفة ,لكنهم وفق الواقعة كانوا يبدأون بالإنسحاب ليترك وحيدا ,مهموما ,بين يدي خصومه ,وكان أصحاب العزاء يستعينون بالجمهور لأداء دور المصلين , وهكذا دخل (بريشت) بنظرياته الرامية الى كسر الإيهام الى “المسرح الطفي” إذا جازت التسمية , فقواعده الفنية خاصة به , وتبلغ التراجيديا ذروتها صبيحة العاشر من محرم عندما يجري تجسيد واقعة”الطف” تجسيدا كاملا , الخيام المحروقة ,سبي النساء ,إستشهاد (الصحابة) رفاق الحسين(ع) واحدا اثر واحد , ويساهم الديكور والإكسسوارات –يرتدي جنود عبيد الله بن زياد الملابس الحمر, بينما يرتدي أصحاب الحسين الملابس الخضر والبيض , ويرتدي (الحسين ) الملابس السود – في منح المشاهد تأثيرا قويا في المتلقي , ومن المشاهد الأخرى المؤثرة مشهد إستشهاد (العباس )الذي كنا نحبه لبطولاته التي تتحدث عنها (المقاتل الحسينية) وهو مشهد يؤدى بشكل يظهر شجاعة فائقة حيث كان يشق جموع الجيش المعادي ليملأ قربته من ماء الفرات لمعسكر الحسين وسط إنحباس أنفاسنا – رغم إننا كنا نعرف النهاية سلفا والحكاية تتتكرر أمامنا سنويا- وفي احدى صولاته يتمكن جيش (عبيد الله بن زياد) من قطع يده اليمنى فيضع سيفه في اليسرى وعندما تقطع يده اليسرى يضع سيفه في فمه ويستمر يقاتل حتى يدمى كل جسده ( كان يرتدي حين يلتف عليه جيش بن زياد في حركة سريعة ثوبا أبيض ملطخا بالدماء ليعلو الصراخ !
وبالرغم من إنني شاهدت عشرات المسرحيات والأفلام السينمائية (بما فيها الهندية في السبعينيات التي كانت تجعل جمهور قاعة السينما يضجون بالبكاء) الا أنني لم أشاهد جمهورا يتفاعل مع العروض مثلما كنت أشاهد في تجسيد تلك الواقعة !
حيث يعيش الجمهور حالة اندماج مع ما يحصل أمامه حتى يصل الأمر بالنساء أن يهرعن الى داخل الساحة التي يجري عليها تجسيد الواقعة ,بعد سقوط المؤدي لدور الحسين –كان يشترط على من يؤدي تلك الشخصية أن يكون منحدرا من سلالته وأن يشهد له بالتقوى والإستقامة وهو المؤدي الوحيد الذي يخضع لشروط حين يسند اليه الدور – ويصل هذا الإندماج الى درجة أن بعض النساء يسرعن لأخذ حفنة من التراب الذي يسقط عليه لأنهم يعتقدن أن به شفاء من الأمراض ,فالتراب الذي يسقط عليه الشخص الذي يؤدي الدور مقدسا !!رغم أن الشخص الذي يؤدي الدور ينهض بعد دقائق ويغير ملابسه وينضم الى الحشد الى العام التالي
وهناك مشاهد جانبية مؤثرة كمشهد مرور (أولاد مسلم) المكبلين بالأصفاد من قبل شخص متجهم , ومشهد (الحرملة) بثيابه السود ورمحه الغليظ الذي يعني ظهوره نهاية (البطل) وعمر بن سعد الذي يدور في الشوارع بعد اليوم العاشر من محرم مرتديا الملابس البهلوانية , مشاهد لا يمكن أن تفارق الذاكرة , ورغم رفضنا القاطع للكثير من الممارسات التي ترافقها كسيل الدماء من الظهور والرؤوس والمبالغة في الضرب على الصدور لكن فيها الكثير من الايقاعات والأناشيد والترديدات ذات الطابع الفولكلوري التي تشكل جزءا من ذاكرة جمعية وتراثا شعبيا يعتبر أحد المصادر الإبداعية التي لا ينضب معينها , لأنها ذاكرة قيم لا ذاكرة بكاء ولطم ونحيب كما يوحي الشكل الظاهر لها
يقول الشاعر قاسم حداد” في هذه الطقوس كانت اللغة تلعب دورا جوهريا ويوميا في التعبير عن تفاصيل تراجيديا الحياة والموت حيث تتقاطع اللغة مع التاريخ المقالي والأسطورة الشعبية”
وعندما تتوهج اللغة يتوهج التاريخ وتعلن القصيدة ولادتها
* *
كان كل شيء في حياتنا يروي جزءا من الواقعة الحزينة … واقعة الطف , ولم يكتف الناس في مدينتي الشعبية الفقيرة بالمظاهر الحزينة بل كانوا ينتقلون بمجاميع من مكان الى آخر بحثا عن قاريء حسيني يستدر الدمع السخي بشكل أفضل من سواه !!! وكانت المواكب الحسينية عصر كل يوم تنتقل من مكان الى آخر محفوفة بالطبول وأصوات الآلات النحاسية والمعدنة وعندما يفتح الليل نوافذه يسير في الشوارع ضاربو الزناجيل منتظمين في طابور طويل بظهور عارية مزقتها السلاسل الحديدية وتركت عليها آثارا حمراء وسوداء لا تمحى , كانوا يسيرون وفق ايقاع متناسق متقن على أصوات ضربات طبل كبير ترافقه رايات سود ولافتات تحمل أسماء المواكب والعشائر التي تنظمها , في مشهد لا يخلو من المباهاة !! ويظل أهل مدينتي يفتحون مسمعهم جيدا فإذا تناهى إليها صوت القاريء ( احمد الوائلي ) سارعوا للمسير صوب جهة الصوت , وكان الوائلي يكون في ساعة الذروة في موكب عزاء بيت فنجان العبل- في مدينة الثورة داخل – والعبل جد الصديق الشاعر حميد قاسم وكان لا يمر عيد دون ان نسلم عليه مع أهلنا وقد بلغ من العمر عتيا – وبعد ان تنتهي المحاضرات الوعظية الارشادية يبدأ اكثر الفصول اثارة !!! واعني : فصل النواح واللطم !!!!حيث يخلع الشباب قمصانهم ويبدأون الضرب على الصدور على إيقاعات
( جابر يجابر ما دريت ابكربله اشصار
من شبت النار
والحرم صاحت لل..
اتريد أهاليها)
ويبلغ الهياج ذروته عندما يقول :
وانظر السهم المصوب
شلون سد عيني ورماني
….
ساعدني عالنوح
وتضمد اجروح
زينب حزينة وفاكدة
منهو اليواسيهه )
واذكر ان هذه القصيدة كانت مطبوعة بكتيب صغير مطبوع حروف مصفوفة يتقطع حبرها عند طرف كل حرف , وكانت هذه القصيدة تباع بعشرة فلوس وكان ذلك أول كتيب اشتريته عندما لم أكن ابلغ من العمر الا التاسعة من عمري , ولان القراءة كانت صعبة في ذلك العمر المبكر لذا كنا ندور في الأزقة فإذا سمعنا صوت الرادود يعلو ب( جابر يجابر ) نحث خطانا صوبه ونفتح كتيباتنا الصغيرة لنتابع بلذة ما يردد من نواح!!!
* * *
لقد شكلت هذه القصيدة جزءا من ذاكرتنا الجمعية , نحن أبناء الفجيعة والحزن الكربلائي , لذا فإننا بعد سنوات طويلة عندما كنا في صنعاء , كان الصديق علي حسن مزبان أستاذ النحو في كلية التربية بحجة , يتمتع بصوت جميل وخلال لقاءاتنا : أنا والدكتور حاتم الصكر والدكتور عبد الرضا عليّ والشاعر فضل خلف جبر يطلق في الليالي لحنجرته العنان ومن أغاني أم كلثوم الى عبد الوهاب وفريد الأطرش ينتقل فجأة الى …( جابر يجابر ) الذي يحتاج الى من يخبره بأنهار الدم الذي يجري في العراق اليوم !!!
(فصل من كتاب معد للطبع بعنوان”يوميات الحنين” )
razaq61@yahoo.com