مسرح الشارع هو المسرح الذي يتناول هموم الناس، ويذهب إليهم، يتصدى لعرض مشكلة ، او يرصد ظاهرة حية تستحوذ على الاهتمام ، واحدى أهم ميزات مسرح الشارع هي أن العرض لا مكان ثابت له، فالعرض يتحرك باتجاه الجمهور الموجود في مكان عام ما ، ويذهب العرض اليه ، وليس كما في المسرح التقليدي إذ يكون مكان العرض ثابت معلوم ويذهب الجمهور اليه.
يقوم مسرح الشارع على أربع مقومات أساسية :
الاولى : ان يتناول العرض ظاهرة او مشكلة اقتصادية سياسية اجتماعية هامة بشكل ما للجمهور الذي تتوجه إليه ، وهي بصورتها العامة ذات صبغة محلية الطابع.
الثاني : ان يثير العرض تفاعلات الجمهور ويبني عليها آنيًا – اثناء العرض- وذلك عبر طرح تساؤلات اكثر من طرح حلول.
الثالث : ان يكون ايقاع العرض سريعا جاذبا للمتلقي ليتوقف ويشاهد ويتابع حتى النهاية.
الرابع : ان تكون تقنيات العرض قليلة خفيفة لسهولة التنقل من مكان الى آخر، وأن يتمتع ممثلوه بقدرة الارتجال ومستعدون لتلقي تفاعلات الجمهور والبناء عليها، لان مسرح الشارع مسرح تفاعلي.
عرض مجموعة من طلبة قسم الفنون المسرحية – معهد الفنون الجميلة / بغداد مسرحية (كوكايين) ضمن اطار فعاليات وأسلوب مسرح الشارع ، وقد اشترك في العرض طلبة من اقسام اخرى : قسم التصميم وقسم الفنون التشكيلية والسمعية والمرئية ، العرض من اخراج د. كريم خنجر.المعروف باهتمامه بمسرح الشارع.
مكان وزمان العرض : قدم العرض الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة ٢٠/ ٥ / ٢٠٢٢ في ساحة المركز الثقافي البغدادي في شارع المتنبي ببغداد، ويعد شارع المتنبي شارعا للثقافة في بغداد إذ يرتاده الشعراء والادباء والفنانون والاكاديميون بمختلف تخصصاتهم ، وتكثر فيه المكتبات ودور النشر والمطابع ، ويبلغ حجم مرتادي الشارع ذروته ايام الجمع تحديدا، وخيرا فعل المخرج كريم خنجر حين وقع اختياره على هذا اليوم تحديدا مستثمرا كثافة الجمهور الذي احاط بالممثلين بدائرة يزيد وينقص قطرها ( من خمسة الى سبعة امتار تقريبا ) بحسب حركة الممثلين، مما جعل المسافة بين المؤدي والمتلقي ضيقة الحدود والتحديق بملامح المؤدين بمزيد من الوضوح لتصوير بشاعة وضعهم المعاش، ومن جانب آخر احتشد جمهور كبير في الشرفات العلوية المحيطة بالمركز الثقافي البغدادي ليرى العرض من منظور علوي ، ولهذا الحضور الكبير دلالة تعافي المسرح في بغداد ودلالة شغف الجمهور بمزيد من العروض ودعمها
تشكيل الدوائر هو الصورة الغالية على التكوينات الحركية، ونهوض الشخصيات وسقوطهم طوال فترة العرض وذلك لان مجموعة الشخصيات تدور في حلقات حول نفسها ما دام الكوكايين يدور في رؤوسهم وبقيت طوال العرض تدور وتسقط بنسق منتظم وتنسيق يفاجئ الجمهور بالشخصية التي تسرد حكاية ظروفها التي دفعتها نحو هاوية المخدرات.
تكون الحوار من جمل قصيرة عبرت ببلاغة ووضوح عن أسباب وملابسات سقوط الشخصيات في المخدرات، وفي ذات الوقت يؤشر قصر الحوار وقلة الاعتماد على لغة الكلمات تساوقا مع طبيعة المتخدرين لانهم غالبا ما ينفصلون عن الواقع ويهيمون في عالم الصور المبهمة والتصورات الغريبة ، ومن جهة اخرى تفرض طبيعة مسرح الشارع الاقتصاد في لغة الكلام والذهاب الى لغة الحركة والتكوينات بسبب الاجواء الخارجية غير الهادئة في الشوارع والساحات العامة التي تأخذ بالاعتبار عدم وصول الصوت الى الجمهور او عدم وضوحه
هيأ العرض جمهور وجذبهم الى مجرياته منذ البداية بصوت آلة الساكسفون التي أضفت هالة جميلة على العرض ، اضافة الى ايقاع آلة ( الطار: وهو نوع من الآلات الايقاعية ) الذي يرجع استخدامها الى طقوس (الزار) او ما يستخدمه الدراويش كخلفية لحركات الدوران في حلقات متكررة ، وكانت سرعة الضربات على (الطار) وقوتها تتوافق على الدوام مع سرعة الاحداث وشدتها.
شخصيات العرض مجموعة شباب بلا أسماء ولا أبعاد معلومات ولا أبعاد واضحة بقدر وضوح أنهم مهزومون ( اجتماعيا و/أو اقتصاديًا و/أو سياسيا ) فروا من ازماتهم الى عالم المخدرات ليعلنوا ضياعهم، الفئة التي قدمت العرض هم الشباب والفئة المستهدفة بالعرض هم الشباب بعدهم الشريحة الاكثر استهدافا بالمخدرات
تجسدت نهاية العرض بجسد تجره الحبال من جميع اطرافه واوصاله، يشترك الجميع بعملية سحب اوصال جسد احدهم وهي عملية بشعة سادها الالم والصراخ والدم … وصلت رسالة العرض بوضوح كبير لدرجة الايهام باستخدام الدماء وسحب اوصال البشر الحي بالحبال حد الموت وبدرجة اتقان عالية – ربما للحد الذي اقشعرت معه الابدان وأشاح البعض وجوههم عنها – انها بشاعة تعاطي المخدرات على اقصاها تلك التي عرضها المخرج ( كريم خنجر)
ضربة المشهد الاخير كانت لحل الازمة التي لم يجد المخرج سبيلا اليها إلا باللجوء الى الدين وما يقدمه من ضبط اجتماعي واتزان نفسي ، وذلك بدخول فتاتان تحملان الكتب السماوية مع صوت التكبير واجراس الكنائس وسجود مجموعة المدمنين، ليقول العرض أن لا ملجأ إلا الى الله.
بالتوفيق والنجاح الدائم لفريق العرض ، واتمنى ان يأخذ العرض مدياته المتوخاة بمحورين:
الاول : تعدد العروض وفي مساحات اكثر وان يجوب المدن كافة.
الثاني : ان يتم تقييم العرض اعلاميا وتسليط الضوء عليه تعضيدا ومساندة ودعما لمجموعة الشباب وجرأتهم في تعبيد مسرح الشارع واعلاء حضور كلمته في المجتمع.
ولغرض أن تتواصل عروض مسرح الشارع لابد من توفير الدعم لجميع العاملين فيه ، ومنهم المخرج (د. كريم خنجر) بما يجعله يتواصل في مشروع مسرح الشارع والارتقاء به لأنه حفر مع فريقه بالصخر ليخرج هذا العرض ، وهو الذي كان راعيا لعدد من المهرجانات المختصة بمسرح الشارع ، شكرا لفريق العرض … لقد تمكنتم من استفزاز مشاعرنا واكرمتم ذائقتنا الجمالية.