يرجع تاريخ البورتريه الى الألف الثالث قبل الميلاد وتحديداً الى عهد الفراعنة على الأرجح، وكما كان الدين دافعاً وراء المسرح الإغريقي وتطوره كان الدافع نفسه وراء البورتريه. لقد ترك لنا فنانو البورتريه أعمالاً فنية كثيرة شهد كلّ منها على مرحلة من مراحل تطوره، واختلفت كل مرحلة عن الأخرى بما يميّزها من ظرفية انعكست على الوجوه التي اختيرت لتكون شاهدة على تلك الظرفية، وما توّلد عنها من مآس ونكبات بشرية بشكل عام وشخصية بشكل محدود. وهذا يعني أن الرسام في البورتريه يشتغل على ملامح الوجوه ونقل تلك الملامح بدقة فائقة، ولنا في الموناليزا (Mona Lisa) التي تعتبر من اجمل ما خلّف لنا عصر النهضة الإيطالية- خير مثال على هذا فاللوحة لا تجذبك تفاصيلها، وفقط تجذبك ابتسامة الجيوكاندا (La Gioconda) ونظرتها التي سحرت وحيّرت المفسرين والمحللين فذكروا من جملة ما ذكروا العلاقة الخفية بينها كامرأة فاتنة الجمال وبين دافينشي المطلق السرية في نظرته إليها، وهي تختلف تمام الاختلاف عن الوجوه التي رسمها بيكاسو بمهارة فنية عالية، على سبيل المثال لا الحصر، إذ أظهرها على هيئة مسوخ ودمى بشرية وكأني به يحتج من خلالها على القوى التي مسخت البشر وتعاملت معهم على انهم مجرد دمى تحركها خيوط ممسوكة بأيد تتقن الاستحواذ. أما الكاريكاتور فانه ركز على تغريب الوجوه والأجساد مظهراً عيوبها الخلقية على وفق رؤية فنان الكاريكاتور لها، والمغزى الخفي المراد منه إظهار حقيقة معتّم عليها واقتناص عيباً جمالياً بمبالغة وتضخيم كبيرين مع بقاء الشبه وارداً بين الوجهين (الواقعي والمتخيل).
وعلى وفق ما تقدم فان أقرب تعريف لفن البورتريه يمكن أن نقدمه هو: فن رسم الوجوه وأحيانا الأجساد التي يركز فيها الفنان على الملامح الواقعية، أو المتخيلة، أو المبتكرة التي تعبر عن فكرة ما أو عقدة ما يعتمدها الفنان ويشتغل عليها وصولاً الى تلك الفكرة، أو حلا لتلك العقدة.
ومن الفنانين المحدثين الذين اشتغلوا على البورتريه الفنانة العراقية المغتربة سعاد هندي التي قدمت لنا عددا من اللوحات التي لا تخلو من لمساتها الفنية ورؤيتها الخالصة التي أرادت إيصالها الى المتلقي بأسلوب فيه فرادة وتميّز واضحان. ومع أن اللوحات بشكل عام لا تحمل عناوين محددة واشتركت بعنوان تعريفي واحد هو (مائيات,, اكفاريل على ورق) إلا أنها امتازت بتعابير مختلفة وبأسلوب يظهرها كما لو أنها قابلة لتكون موحدة على عنوان جديد هو (نساء من ماء) فهي تمتاز باستخدام الألوان المائية على ورق الاكفاريل الخشن (Akvarellpapper) وهذا العنوان هو مفتاح الدخول الى لوحات وجوه النساء اللواتي اكتسبن بعض ملامح الفنانة التي آثرت أن تدخل على وجوههن بعضا من ملامحها أو أن هذه الملامح ظهرت عليهن دون قصد وهذا هو ما حدث مع بعض فنانات الرسم حين تناولن المرأة وقدها مثل الراحلة ليلى العطار.
السؤال الذي يفرض نفسه علينا هو: هل استطاعت سعاد أن تقدم شيئاً مختلفاً عمن سبقها؟ ولم أجد سهولة في الإجابة الفورية، وجعلني هذا أقف متأملاً لوحاتها المرة تلو المرة حتى اكتشفت أن أغلب الوجوه تشترك فيما بينها بصفات توحدها وهي:
أولاً. عدم الالتزام بقواعد البورتريه التقليدي فالفنانة هنا لا تريد أن تقدم لنا وجوها كما قدمها دافنشي واضحة ومشابهة لملامح الشخصيات الواقعية بشكل دقيق.
ثانيا. أرادت أن تمنح الوجوه معنى قد لا يكون ممكنا في الحالة التقليدية، من خلاله تعمّق فكرتها أو رؤيتها الفنية والفكرية لما في تلك الوجوه من معنى.
ثالثا. استخدمت الألوان المائية لخاصية تتفرد بها وهي حالة السيولة التي افترضت أنها ميزة تلك الوجوه وحقيقتها على وفق رؤيتها الخاصة.
رابعا. حاولت إيصال فكرة أن الجمال لا يمكن أن يكون ثابتاً فهو قيمة متغيرة من زمن الى زمن ومن مكان الى آخر. وان المجتمعات نفسها لا تنظر الى الجمال بنفس مقاسات مجتمعات أخرى غيرها.
خامسا. أرادت بأسلوبها الخاص دفع المتلقي الى التفكير بما خفي وراء تلك الوجوه تماما كما فعل برنادشو في الموناليزا التي دوخت العالم بتفاسير مختلفة وكثيرة، أو ما فعل بيكاسو الذي رسم نساءه بأشكال لا ترتبط بأوصاف حبيباته في واقع الحال.
لنأخذ لوحة المرأة المضطهدة على سبيل المثال و(العنونة من وضعي شخصياً) لنجد فيها كدمات قاسية على وجهها وتحديداً على العينين والشفتين والأنف كدلالة على الفعل التدميري الذي استهدف أبرز المعالم الجمالية في المرأة، هذا فضلاً عن الثقب العميق والمميت في مقدمة رقبتها. إن قتل الجمال أو تشويهه في مجتمعاتنا وحده كاف ليكون موضوعة أثيرة وكبيرة في هذا المجال.
سعاد إذن بلغت أعماقَ مادتها قبل الشروع برسمها فجاءت اللوحة معبرة بصدق وحرارة عن مكنون وجوهر تلك المادة التي تطرّق لها علم النفس والاجتماع في المقالات، والمحاضرات، والكتب، واختزلته سعاد هندي بلوحة واحدة صغيرة الحجم وبالألوان المائية. في لوحاتها أيضا ثمة عذابات أخرى ترسمها فرشاة سعاد بخبرة ودراية من خلالها استطاعت أن تبثّ لنا المزيد عن معاناة المرأة واضطهادها وتعذيبها وحتى موتها ففي لوحة الحياة والموت استخدمت الفنانة الأصفر الباهت الذي يمثل الموت والذبول على جانب اللوحة الأيمن ويقابله على الجانب الأيسر اللون الأبيض المائل للرصاصي، ولم يكن أبيض ناصعاً فالحياة في واقع الحال ليست بالنقاء الذي نتوقعه، وقد انعكس هذا على وجه المرأة الميتة من خلال عينيها المسبّلتين ولون وجهها الآيل للرصاصي فضلاً عن شفتيها الذابلتين الذاوتين، والفجوات البيض التي خرمت أجزاء من وجهها. هنا تدفعك اللوحة الى التساؤل عن السبب أو الأسباب التي أدت الى وفاة المرأة، وبناء على فحصنا لبقية اللوحات نستنتج إن وراء عذابات المرأة ومكابدتها يكمن سر الموت المجسّد في هذه اللوحة. في أحيان أخرى تخفي الفنانة ذلك السر عمداً بتغطيته بشعرها المسترسل مثل شلال أسود ونجد آثار الكدمات نفسها على عينيها وخاصة تلك التي أخفتها بالشعر الكثيف النازل على صفحة وجهها الذابل. لقد استخدمت اللون الأصفر الباهت على جغرافية اللوحة كلّها ومن المهم التركيز في هذه اللوحة على درجة الحزن الذي غطى ملامح المرأة ونظرتها التي تَطْلُبُ منا الوقوف الى جانب قضيتها كامرأة عانت من الذل والمهانة وهذه حالة تشترك فيها بقية اللوحات.
أذن العامل المشرك في وجوه نساء سعاد هندي هو الحزن، وضياع الأمل، والاستسلام للموت وكل هذا يغلف عالم اللوحات بالتشاؤم ويسد فسحة الأمل في تغيير واقع المرأة، ولا يفوتني أن اذكر أن الابتسامة التي ترسمها سعاد أحيانا على وجوه بعض نسائها مغلفة بالحزن الشفيف ويذكرنا هذا بابتسامة الموناليزا التي يتداخل فيها الحزن بطريقة غامضة.
لقد اجترحت سعاد روحية لوحاتها من معاناة النساء في بلدها الأم وحاولت أن تنتصر لهن في قضيتهن التي أهملت كثيراً وطويلاً ولا تزال من دون أي ملامح جديدة لتغيير قادمٍ يقلب الموازين وينقل المرأة الى واقع بهيج لا تستلب فيه كينونتها ورغبتها في حياة حرة سعيدة وكريمة. وأخيراً لا بد لي أن ألفت انتباه المتلقي المتفاعل مع هذه اللوحات الى قدرة الفنانة على وضع الشفتين والعينين في موضعين متناقضين فالشفتان تبتسمان أحيانا أو تحاولان ذلك، ولكن العينين تنبئان بحزن يحتل أعماق النفس المضطربة. وهذا من الأمور التي يصعب تجسيدها أو الإتيان بها في بورتريه واحد.
تحية كبيرة للفنانة المغتربة سعاد هندي وهي تهدينا كل هذا الجمال المكابر من خلال وجوه نسائها المُضْطَهدات.