يُعدّ الشَّاعر العراقيّ «بدر شاكر السَّيَّاب» رائدًا من رُوَّاد شعر الحداثة مع الشَّاعرة العراقيَّة الكبيرة «نازك الملائكة» (2007-1923 م)، والشَّاعر الكبير «عبد الوهَّاب البيَّاتي» (1999-1926م).
لقد أصَّـل للقصيدة الحديثة ذات التَّفعيلة، وسما في معارجها، وفتح أمامها الآفاق لتتَّسع وتنتشر بمُستوياتها الإبداعيَّة المُختلفة، مُستغلًّا طاقة الرَّمز والأُسطُورة والتَّناص، تاركًا بصمة فنيَّة ورياديَّة خاصَّة في كُلِّ الأجيال اللَّاحقة من بعده.
***
وُلد «بدر شاكر السَّيَّاب » في 25 ديسمبر من عام 1926م، بقرية «جيكُور» التَّابعة لقضاء أبي خصيب في مُحافظة «البصرة» في جنُوب العراق. فَقْد والدته عندما كان عُمْرهُ سِتّ سنوات، وكان لوفاتها أعمق الأثر في حياته، فقد عاش طُفولة مُضطربة نوعاً ما. التحق بدار المُعلِّمين العُلْيا في «بغداد»، واختار لنفسه تخصُّص اللُّغة العربيَّة، ولكنّ تغيَّر الاختيار في عام 1945م إلى تخصُّص اللُّغة الإنجليزيَّة. تخرَّج «السَّيَّاب» من الجامعة في عام 1948م، وفي تلك الأثناء عرف بنضاله الوطني في سبيل تحرير العراق من الاحتلال الإنجليزي، وفي سبيل القضيَّة الفلسطينيَّة. وبعد أنْ أسندت إليه وظيفة تدريس اللُّغة الإنجليزيَّة في «الرَّمادي»، ومارسها عِدَّة أشهر تمَّ فَصْلُهُ منها بسبب مُيُوله السِّياسيَّة وأودع السِّجن.
وفي عام 1952م اضْطُرّ إلى مُغادرة بلاده والتَّوجُّه إلى «إيران»، ثُمَّ إلى «الكُويت»، وذلك عقب اشتراكه في بعض المُظاهرات. على أنَّه عاد إلى بلاده في عام 1954م، فوزَّع وقتُه ما بين العمل الصِّحافي والوظيفة في مُديريَّة الاستيراد والتَّصدير.
تزوَّج «السَّيَّاب» في عام 1955م من السَّيِّدة «إقبال» خرِّيجة دار المُعلِّمات الابتدائيَّة، التي ارتضته لنفسها زوجًا ورفيقًا لرحلة عُمْرها، فحاولت أنْ تنهض به من واقعه البائس لتجعل منه ومن بيتها أُنمُوذجًا اجتماعيًّا أفضل تتمنَّاه كُلُّ زوجة حالمة بمستقبلٍ سعيدٍ إلى جانب زوجها. وقد خلَّد «السَّيَّاب» زوجته بديوانٍ كاملٍ وأرَّخ لتعايُشه معها حتى وفاته بأشعاره الخالدة، فهي الزَّوجة الوفيَّة، والصَّابرة على مرضه الذي أصابه.
عانى الشَّاعر في عام 1961م من ثقلٍ في حركته، وألم شديدٍ في أسفل ظهره، ثُمَّ بدأ جسمُه بالضُّمُور، فانتقل إلى عِدَّة دُولٍ لتلقِّي العلاج، إلَّا أنَّه لم يجدِ نفعًا، ثُمَّ انتقل إلى «الكُويت»، حيث عُولج فيها، ولكنَّه تُوُفّي في إحدى مُستشفياتها في 24 ديسمبر من عام 1964م، وهُو في الثَّامنة والثَّلاثين من عُمْره. و دفن في قريته «جيكُور».
أصدر «السَّيَّاب» في حياته عِدَّة دواوين شعريَّة، هي: «أزهارٌ ذابلةٌ» (1947م)، ويشتمل على (25) قصيدة، وديوان «أساطير» (1950م) ويتضمَّن (26) قصيدة، و«حفَّار القُبُور»، قصيدةٌ مُطوَّلةٌ صدرت عام (1952م)، و«فجر السَّلام»، قصيدةٌ مُطوَّلةٌ كتبها الشَّاعر في عام (1950م)، و«الأسلحة والأطفال»، قصيدةٌ مُطوَّلةٌ، صدرت عام (1954م)، و«المُومس العمياء»، قصيدةٌ مُطوَّلةٌ، صدرت عام (1954م)، وديوان «أُنشُودة المطر»، (1960م)، وقد قسَّمه إلى عدة أقسام: أوَّلها: «غريب على الخليج» ويشتمل على (9) قصائد، والثَّاني: «قافلة الضَّياع» ويشتمل على (5) قصائد، والثَّالث: «جيكُور والمدينة» ويشتمل على (8) قصائد، بينما يشتمل القسم الرَّابع على (6) قصائد، كما يتضمَّن الدِّيوان قصيدة «بُورسعيد»، ثُمَّ ديوان «المعبد الغريق»، (1962م) ويتضمَّن (25) قصيدة، وديوان «منزل الأقنان» (1963م)، مُتضمِّنًا (18) قصيدة، وديوان «شناشيل ابنة الجلبي»، (1964م) ويشتمل على (25) قصيدة. كما صدر للشَّاعر بعد وفاته عِدَّة دواوين.
تنقسم مراحل شعر «السَّيَّاب» إلى أربع مراحل، المرحلة الأُولى، وهي مرحلة الذَّاتيَّة الفرديَّة، حيث اصطبغ شعره بصبغة الأطوار التي تقلَّبت فيها حياته الاجتماعيَّة والفكريَّة. فقد عصَره الألم في شبابه، وشعر بالغُربة القاسية وهُو في بيئته؛ ولم يجد قلبُه شديد الحساسية مَنْ يُخْرِجُهُ من أتون آلامه. ورافق ذلك كُلَّه تتبُّع فكري وعاطفي لحركة الرُّومانسيَّة التي شاعت في أوروبا، أمَّا المرحلة الثَّانية فهي مرحلة الخُروُج من الذَّاتيَّة الفرديَّة إلى الذَّاتيَّة الاجتماعيَّة، وقد انطلق الشَّاعر يتحدَّث عن آلام المُجتمع وما أصاب الشُّعوب من فقرٍ وبُؤسٍ، ويُهاجم الظُّلم ويُصوِّرُه في قصيدة « حفَّار القُبُور » ماردًا جشعًا يرقُص على جُثث الموتى ويتغذَّى جشعُه بأرواحهم.
وفي المرحلة الثَّالثة، حيث يتعمَّق مفهوم الشِّعر الحديث عنده خلال فترة الخمسينيَّات من القرن المُنصرم، التي تُمثِّل نُضجه، حيث تكاملت ثقافتُه وتطوَّرت تجربتُه، فتنامت القصيدة لديه بشكلٍ واضحٍ. وظهرت الأُسطُورة في شعره بشكلٍ مُكثَّفٍ، وكذلك التَّعامُل الجديد مع اللُّغة بحيث صارت لكلماتها معـانٍ مُستحدثةٍ مُستمدَّةٍ من الغــوص وراء المعنى الحقيقي الكامن فيها، فالمطر رمز العطاء، والموت رمز البعث، وصوَّت الطِّفل رمز التَّجدُّد، وبُوَيْب رمز تدفُّق الحياة في الأرض والإنسان وهكذا، أمَّا المرحلة الرَّابعة، فهي مرحلة الانكفاء إلى الذَّات في فترة اشتداد المرض، وشُعُورُه بدُنُوِّ أجله، فاسودَّت الدُّنيا في وجهه، وتحوَّلت الحياة إلى موتٍ.
كان شعره يمُور بكُلِّ ما حملتُه أصوات العراقيِّين عَبْر العُصُور من لواحق المرارة والقهر والشَّجن العاطفي الذي بلغ ذراه في أعماله الأخيرة. أمَّا مُعاناة «السَّيَّاب» فقد كانت مُعاناة فشل عاطفي، واضطهاد فكري، ونضال ضدّ الفقر والجهل، وقد توَّج مُعاناته هذه بالتَّأمُّل في التَّجربة الشِّعريَّة حتى صارت أعمق وأصدق. فهو كما يقول الأديب والناقد اللبناني «إيليا حاوي» (المولود في عام1929م): « غدا أعمق اتصالًا بالحقيقة الفعليَّة في الوُجُود، وبات أدنى إلى استبطان أرواح العالم المبثُوثة في حناياه والتي لم يتَّصل بها الشِّعر العربي من قبل».
لقد استفاد «السَّيَّاب» من العرُوض الخليلي ووظَّفه لما يخدم حركة الشِّعر العربي، فهُو وإنْ لم يلتزم بالشَّكل الذي حدَّده «الخليل بن أحمد» للبيت إلَّا أنَّه التزم التَّفعيلة، فحوَّل الأساس من مجموع التَّفعيلات التي تُشكِّل وحدة البيت إلى التَّفعيلة نفسها ممَّا أتاح له مجالًا أوسع للتَّعبير، وميادين جديدة لتصوير العواطف والأحاسيس والتَّخلُّص من الأفكار المُبتذلة.
كما تمكَّن من التَّخلُّص من الوحدة المُوسيقيَّة الرَّتيبة، حيث لم ترتبط قصيدته بذلك التَّحديد، أو تلك السنتمتريَّة فأصبحت أكثر تنويعًا، ونرى أنَّ أغلب قصائده يغمُرها الإيقاع الشَّجي وفقًا لحالته النَّفسيَّة. وقد كان في بعض قصائده ينتقل من بحرٍ إلى آخر؛ ليُنوِّع في النَّغم أو يمزُج بين الشَّكل الجديد والشَّكل القديم. وعلى الرَّغم من كُلِّ هذا فهُو لم يتخلَّـص من المُوسيقا الخارجيَّة، لأنَّه ظلّ مُرتبطًا بالشِّعر العمُودي ولم ينفصل عنه انفصالًا تامًّا. وبهذا يُمكنُنا القول إنَّ القصيدة عند «السَّيَّاب» اتَّخذت شكلًا مختلفًا لم تألفه القصيدة العربيَّة من قبل، فالشَّكل عنده ليس قالبًا يحتوي القصيدة وإنَّما مُحتوى القصيدة هُو الذي يُحدِّد أبعادها.
لا أحد يُنكر ريادة «بدر شاكر السَّيَّاب» لحركة التَّجديد في الأدب العربي المُعاصر، فالمُحاولات العديدة التي سبقته لم تكن سوى الأُسُس التي مهَّدت لظُهُور الشِّعر الحُرّ وما يُسمَّى بــــــ «الشِّعر الجديد». فتجربتُه في هذا المضمار تجربةً رائدةً، لأنَّها استطاعت أنْ تُواصل عمليَّة التَّطوُّر التي طرأت على القصيدة العربيَّة خلال تاريخها الطَّويل، كما أنَّها تغلَّبت على الجُمُود الذي ظلّ مُخيَّمًا على القصيدة العربيَّة سواء أكان في الشَّكل أو المضمُون، وهذا الانعطاف ليس بالشَّيء اليسير، إلَّا أنَّ «السَّيَّاب» استطاع أنْ يُفجِّر ينابيع الإبداع ويجعل الشِّعر العربي يواكب الأحداث التي مرَّت بها الأمة العربيَّة، وينقُل الشِّعر إلى آفاقٍ أُخرى بفضل ما يمتلكُه من مواهب وقُدُرات.
تنبه «السَّيَّاب» إلى القضيَّة الفلسطينيَّة، فشارك عام 1946م في المُظاهرات التي انطلقت ضدّ السِّياسة البريطانيَّة في «فلسطين». وفي قصيدته المُعنونة «في يوم فلسطين»، يتحدَّث الشَّاعر عمَّا جرى للقُدس من إبادةٍ لأهلها على يدّ اليهود، و«بريطانيا»، إبادةٌ تُذكُرُ بما فعله زعيم حزب النَّازي الألماني «أدُولف هتلر» (1945-1889م) باليهود، ثُمَّ يعُود ليُخاطب «فلسطين» برُوحٍ قويَّةٍ مُتفائلةٍ:
والقُدْس ما للقُدْس يمشي فوقها / صهيُون بين الدَّمع والأشلاء / ما هتلر السَّفَّاح أقسى مدية / يوم الوغى من هتلر الحُلفاء/يا أُخت يعرب لن تزالي حـُرَّة/ بين الدَّم المسفُوك والأعـداء… إلى أنْ يقُول:
والنَّصر للشَّعب الذي لا ينثني/عن عزمه، والصولة النكراء/ أجلُ الطُّغاة بكُلِّ حدّ صارم ما/ أنْ يزيل العار كالإجلاء..